فصل: تيسير الإمام، والولاة، والعمّال، على الرّعيّة، والرّفق بهم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


توهّم

التّعريف

1 - التّوهّم في اللّغة‏:‏ الظّنّ‏.‏

وفي الاصطلاح عرّفه بعض الفقهاء بأنّه‏:‏ تجويز وجود الشّيء في الذّهن تجويزاً مرجوحاً‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ التّوهّم يجري مجرى الظّنون، يتناول المدرك وغير المدرك‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّصوّر‏:‏

2 - التّصوّر هو حصول صورة الشّيء في العقل، وإدراك الماهيّة من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات‏.‏ والفرق بين التّوهّم والتّصوّر‏:‏ أنّ تصوّر الشّيء يكون مع العلم به، وتوهّمه لا يكون مع العلم به، لأنّ التّوهّم من قبيل التّجويز، والتّجويز ينافي العلم‏.‏

ب - الظّنّ‏:‏

3 - الظّنّ هو الاعتقاد الرّاجح مع احتمال النّقيض، ويستعمل أيضا في اليقين والشّكّ‏.‏ والمعروف أنّ الوهم الطّرف المرجوح مطلقا وقيل‏:‏ الظّنّ أحد طرفي الشّكّ بصفة الرّجحان وقيل‏:‏ الظّنّ الطّرف الرّاجح المطابق للواقع، الوهم‏:‏ الطّرف الرّاجح غير المطابق للواقع‏.‏ ج - الشّكّ‏:‏

4 - الشّكّ هو التّردّد بين النّقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشّاكّ‏.‏

وقيل‏:‏ الشّكّ ما استوى طرفاه، وهو الوقوف بين الشّيئين لا يميل القلب إلى أحدهما، فإذا ترجّح أحدهما ولم يطرح الآخر فهو بمنزلة اليقين‏.‏

د - اليقين‏:‏

5 - اليقين في اللّغة‏:‏ العلم الّذي لا شكّ فيه‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ اعتقاد الشّيء بأنّه كذا، مع اعتقاد أنّه لا يمكن إلا كذا، مطابقا للواقع غير ممكن الزّوال‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

6 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ التّوهّم بالمعنى المتقدّم لا عبرة له في الأحكام، فكما لا يثبت حكم شرعيّ استنادا على وهم، لا يجوز تأخير الشّيء الثّابت بصورة قطعيّة بوهم طارئ‏.‏ مثال ذلك‏:‏ إذا توفّي المفلس، تباع أمواله وتقسم بين الغرماء، وإن توهّم أنّه ربّما ظهر غريم آخر جديد، لأنّه لا عبرة للتّوهّم‏.‏

وكما إذا ظنّ براءة الذّمّة من صلاة، وتوهّم شغلها بها فلا قضاء عليه‏.‏ إذ لا عبرة للوهم‏.‏

ويذكر التّوهّم ويراد به ما يقابل اليقين كما ذكره بعض فقهاء الشّافعيّة بقولهم‏:‏ «فإن تيقّن المسافر فقد الماء تيمّم بلا طلب وإن توهّمه - أي وقع في وهمه‏:‏ أي ذهنه، بأن جوّز وجود ذلك تجويزا راجحا وهو الظّنّ، أو مرجوحاً وهو الوهم، أو مستوياً وهو الشّكّ - طلبه‏.‏ وقد يعمل بالوهم في حال شغل الذّمّة وتوهّم براءتها، وهي لا تبرأ إلّا باليقين كما ذكره بعض فقهاء المالكيّة بقولهم‏:‏ «إذا ظنّ براءة الذّمّة من صلاة، وتوهّم شغلها بها، فلا قضاء عليه، بخلاف من ظنّ تمام صلاته، وتوهّم بقاء ركعة منها فإنّه يجب عليه العمل بالوهم «‏.‏ وتكلّم الفقهاء عن قاعدة «لا عبرة بالظّنّ البيّن خطؤه «‏.‏

وقاعدة «لا عبرة بالتّوهّم «وفرّعوا عليهما مسائل كثيرة يختلف حكمها باختلاف المواطن، ولا يمكن حصرها في مقام واحد فيرجع إلى مظانّها في كلّ مذهب‏.‏

قال صاحب درر الحكّام شرح مجلّة الأحكام عند قاعدة «لا عبرة للتّوهّم «ما نصّه‏:‏

يفهم منها أنّه كما لا يثبت حكم شرعيّ استنادا على وهم لا يجوز تأخير الشّيء الثّابت بصورة قطعيّة بوهم طارئ‏.‏ مثال ذلك‏:‏ إذا توفّي المفلس تباع أمواله وتقسم بين الغرماء وإن توهّم أنّه ربّما ظهر غريم آخر جديد، والواجب محافظة على حقوق ذلك الدّائن المجهول، ألا تقسم، ولكن لأنّه لا اعتبار للتّوهّم تقسم الأموال على الغرماء، ومتى ظهر غريم جديد يأخذ حقّه منهم حسب الأصول المشروعة‏.‏

كذا إذا بيعت دار وكان لها جاران لكلّ حقّ الشّفعة أحدهما غائب فادّعى الشّفيع الحاضر الشّفعة فيها يحكم له بذلك، ولا يجوز إرجاء الحكم بداعي أنّ الغائب ربّما طلب الشّفعة في الدّار المذكورة‏.‏ كذلك إذا كان لدار شخص نافذة على أخرى لجاره تزيد على طول الإنسان فجاء الجار طالبا سدّ تلك النّافذة بداعي أنّه من الممكن أن يأتي صاحب النّافذة بسلّم ويشرف على مقرّ النّساء فلا يلتفت لطلبه‏.‏ وكذا لا يلتفت لطلبه فيما لو وضع جاره في غرفة مجاورة له تبنا وطلب رفعه بداعي أنّه من المحتمل أن تعلق به النّار فتحترق داره‏.‏

كذا‏:‏ إذا جرح شخص آخر ثمّ شفي المجروح من جرحه تماما وعاش مدّة ثمّ توفّي فادّعى ورثته بأنّه من الجائز أن يكون والدهم مات بتأثير الجرح فلا تسمع دعواهم‏.‏

تيامن

التّعريف

1 - التّيامن مصدر تيامن إذا أخذ ذات اليمين، ومثله يامن‏.‏ وتيمّنت به مثل تبرّكت وزنا ومعنى‏.‏ ولا يخرج معناه في الاصطلاح عن أصل المعنى اللّغويّ فالتّيامن‏:‏ البدء باليمين في الوضوء واللّبس، وسقي الماء‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ ومثله التّيمّن قال ابن منظور‏:‏ التّيمّن‏:‏ الابتداء في الأفعال باليد اليمنى، والرّجل اليمنى، والجانب الأيمن‏.‏

الحكم التّكليفي

2 - التّيامن سنّة لحديث عائشة رضي الله عنها «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعجبه التّيمّن في شأنه كلّه في طهوره وترجّله وتنعّله»‏.‏ ويتبيّن ذلك فيما يأتي‏:‏

الغسل‏:‏

3 - تقديم الشّقّ الأيمن على الشّقّ الأيسر في الأغسال المفروضة والمسنونة سنّة لحديث عائشة السّابق‏.‏ فيغسل الشّقّ الأيمن المقبل منه والمدبر، ثمّ الأيسر كذلك‏.‏

الوضوء‏:‏

4 - التّيامن في الوضوء سنّة، من خالفها فاته الفضل وتمّ وضوءه - فيغسل يده اليمنى قبل اليد اليسرى، والرّجل اليمنى قبل الرّجل اليسرى، للتّأسّي بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم حيث كان يفعل ذلك في وضوئه على الدّوام‏.‏

ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا توضّأتم فابدءوا بميامنكم»‏.‏

مسح الخفّين‏:‏

5 - الأفضل تقديم الرّجل اليمنى على اليسرى في مسح الخفّين والجوربين لحديث عائشة السّابق ‏.‏

التّيمّم‏:‏

6 - تقديم اليمين على اليسار في التّيمّم سنّة‏.‏ فيمسح يده اليمنى قبل اليد اليسرى لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عمّار بن ياسر رضي الله عنهما قال‏:‏ «بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرّغت في الصّعيد كما تتمرّغ الدّابّة، ثمّ أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال‏:‏ إنّما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، حتّى قال ثمّ ضرب بشماله على يمينه، وبيمينه على شماله»‏.‏

دخول المسجد‏:‏

7 - يستحبّ التّيامن عند دخول المسجد والبيت، وعند الخروج من الخلاء، لما روي عن أنس رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ «من السّنّة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى» فيقدّم رجله اليمنى عند دخول المسجد والبيت، وعند الخروج من الخلاء ويؤخّر رجله اليسرى‏.‏

اللّباس‏:‏

8 - يستحبّ الابتداء باليمين في اللّباس، فيدخل كمّه الأيمن قبل الأيسر في لبس الجبّة والقميص وغيرهما، ويدخل رجله اليمنى قبل اليسرى في لبس السّراويل، والنّعال، والأخفاف، وأشباهها‏.‏ لحديث عائشة رضي الله عنها السّابق‏.‏

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا انتزع فليبدأ بالشّمال لتكن اليمنى أوّلهما تنعل وآخرهما تنزع»‏.‏

وعن حفصة رضي الله عنها «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه، ويجعل شماله لما سوى ذلك»‏.‏

الصّلاة‏:‏

9 - يسنّ للمصلّي التّيامن عند التّسليم في آخر الصّلاة فيبدأ بالالتفات إلى جهة يمينه‏.‏

لما روي «عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه كان يسلّم عن يمينه السّلام عليكم ورحمة اللّه حتّى يرى بياض خدّه الأيمن وعن يساره السّلام عليكم ورحمة اللّه حتّى يرى بياض خدّه الأيسر»‏.‏ ويستحبّ أيضاً الوقوف عن يمين الإمام إذا كان منفردا مع الإمام‏.‏

لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال‏:‏ «صلّيت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقمت عن يساره فأخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه»‏.‏ فلو وقف المأموم الواحد عن يسار الإمام أداره الإمام إلى اليمين‏.‏

وصرّح الحنابلة بأنّه لو أكمل ركعة من الصّلاة وهو عن يسار الإمام مع خلوّ يمينه بطلت صلاته لكن لو كبّر عن يسار الإمام ثمّ انتقل إلى يمينه قبل إتمام الرّكعة صحّت صلاته‏.‏ ويستحبّ الوقوف عن يمين الصّفّ إذا كانوا جماعة لحديث البراء قال‏:‏ «كنّا إذا صلّينا خلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه»‏.‏ ويستحبّ الصّلاة في ميمنة المسجد إذا كان يصلّي منفرداً‏.‏

الأذان‏:‏

10 - يبدأ المؤذّن في الأذان للصّلاة بالالتفات إلى يمينه عند الحيعلة الأولى وهي «حيّ على الصّلاة «ثمّ إلى اليسار عند قوله «حيّ على الفلاح «لفعل بلال رضي الله عنه ذلك‏.‏ وتقدّم الأذن اليمنى على اليسرى عند الأذان في أذن المولود فيؤذّن في أذنه اليمنى أوّلا ثمّ يقيم في أذنه اليسرى، وذلك ليسبق ذكر اللّه تعالى إلى مسامع الطّفل قبل أيّ شيء آخر، ولما فيه من طرد الشّيطان عنه فإنّه يدبر عند سماع الأذان كما ورد في الخبر‏.‏

غسل الميّت‏:‏

11 - يستحبّ تقديم غسل الجانب الأيمن من الميّت على الجانب الأيسر، فيغسّل شقّه الأيمن ممّا يلي القفا والظّهر إلى القدم، ثمّ يحرفه إلى شقّه الأيمن فيغسّل شقّه الأيسر كذلك‏.‏ لحديث أمّ عطيّة رضي الله عنها «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهنّ في غسل ابنته زينب رضي الله عنها‏:‏ ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها»‏.‏

خصال الفطرة‏:‏

12 - يستحبّ تقديم اليمين في السّواك فيبدأ بجانب الفم الأيمن قبل الأيسر، ويمسك السّواك بيده اليمنى لا اليسرى لحديث‏:‏ «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحبّ التّيمّن في شأنه كلّه في طهوره وترجّله وتنعّله وسواكه»‏.‏

ويستحبّ التّيامن في تقليم الأظافر‏.‏ فيقدّم تقليم أظافر اليد اليمنى على تقليم أظافر اليد اليسرى، وأظافر الرّجل اليمنى على تقليم أظافر الرّجل اليسرى‏.‏

الحلق‏:‏

13 - يستحبّ التّيامن في حلق الرّأس فيقدّم الشّقّ الأيمن على الشّقّ الأيسر، ولكنّهم اختلفوا هل العبرة بيمين المحلوق أو بيمين الحالق ‏؟‏‏.‏

فذهب الجمهور إلى أنّ العبرة بيمين المحلوق فيبدأ بشقّ رأسه الأيمن ثمّ الشّقّ الأيسر‏.‏ ودليل الجمهور في ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها، ثمّ أتى منزله بمنى ونحر، ثمّ قال للحلّاق‏:‏ خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثمّ الأيسر، ثمّ جعل يعطيه النّاس»‏.‏

وفي رواية‏:‏ «لمّا رمى الجمرة ونحر نسكه وحلق ناول الحلّاق شقّه الأيمن فحلقه، ثمّ دعا أبا طلحة الأنصاريّ رضي الله عنه فأعطاه إيّاه، ثمّ ناوله الشّقّ الأيسر فقال‏:‏ احلق‏:‏ فحلقه، فأعطاه أبا طلحة فقال‏:‏ اقسمه بين النّاس»‏.‏

وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنّ العبرة بما على يمين الحالق وهو شقّ رأس المحلوق الأيسر

إدارة الإناء‏:‏

14 - يسنّ إدارة الإناء على الأيمن فالأيمن بعد المبتدئ بالشّرب إذا كان عنده جلساء آخرون وأراد أن يعمّم عليهم وإن كان من على يساره أفضل من الّذي على يمينه لما روي عن أنس رضي الله عنه «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابيّ، وعن يساره أبو بكر رضي الله عنه، فشرب فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ أعط أبا بكر يا رسول اللّه فأعطى الأعرابيّ الّذي عن يمينه ثمّ قال‏:‏ الأيمن فالأيمن»‏.‏ ولحديث سهل بن سعد رضي الله عنه «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ‏؟‏ فقال الغلام‏:‏ واللّه يا رسول اللّه لا أوثر بنصيبي منك أحداً‏.‏ فتلّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في يده»‏.‏ وهذا الغلام هو عبد اللّه بن عبّاس رضي الله عنهما‏.‏

النّوم‏:‏

15 - يستحبّ النّوم على الشّقّ الأيمن لثبوت ذلك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لما روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شقّه الأيمن ثمّ قال‏:‏ اللّهمّ أسلمت نفسي إليك، ووجّهت وجهي إليك، وفوّضت أمري إليك، وألجأت ظهري رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلّا إليك‏.‏ آمنت بكتابك الّذي أنزلت وبنبيّك الّذي أرسلت»‏.‏ وعنه رضي الله عنه قال‏:‏ قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «إذا أتيت مضجعك فتوضّأ وضوءك للصّلاة ثمّ اضطجع على شقّك الأيمن وقل»‏:‏ وذكر نحوه‏:‏ وفيه‏:‏ «واجعلهنّ آخر ما تقول»‏.‏

وهناك أمور يسنّ فعلها باليمين دون اليسار إلا للضّرورة، منها‏:‏ استلام الحجر الأسود، ورمي الجمار، والمصافحة، والأكل والشّرب وتفصيل كلّ ذلك في مواضعه‏.‏

تيسير

التّعريف

1 - التّيسير لغة مصدر يسّر، يقال‏:‏ يسّر الأمر إذا سهّله ولم يعسّره ولم يشقّ على غيره أو نفسه فيه‏.‏ وفي التّنزيل ‏{‏وَلَقَد يَسَّرْنَا القُرآنَ لِلذِّكرِ فَهَل مِنْ مُدَّكِرٍ‏}‏ أي سهّلناه وجعلنا الاتّعاظ به ميسوراً‏.‏ وفي الحديث «يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا» وهو من اليسر، واليسر في اللّغة اللّين والانقياد، ويقال‏:‏ ياسر فلان فلانا إذا لاينه، وتيسّرت البلاد إذا أخصبت، واليسر والميسرة الغنى، وكذلك اليسار، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإنْ كَانَ ذو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيسَرَةٍ‏}‏‏.‏ ومن معاني التّيسير في اللّغة التّهيئة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَنُيَسِّرُه لليُسْرَى‏}‏ أي نهيّئه للعود إلى العمل الصّالح‏.‏ وفي صحيح مسلم «تيسّروا للقتال» أي تهيّئوا له وتأهّبوا‏.‏ ومعنى التّيسير في الاصطلاح الفقهيّ موافق لمعناه اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّخفيف‏:‏

2 - التّخفيف لغة ضدّ التّثقيل، سواء أكان حسّيّا أم معنويّا، والخفّة ضدّ الثّقل، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُه‏}‏ أي‏:‏ قلّت أعماله الصّالحة حتّى رجحت عليها سيّئاته‏.‏ والخفّة خفّة الوزن وخفّة الحال‏.‏

والتّكليف الخفيف هو الّذي يسهل أداؤه، والثّقيل هو الّذي يشقّ أداؤه، كالجهاد‏.‏

والتّخفيف في الاصطلاح رفع مشقّة الحكم الشّرعيّ بنسخ، أو تسهيل، أو إزالة بعضه أو نحو ذلك أي إن كان فيه في الأصل حرج أو مشقّة‏.‏ فالتّخفيف أخصّ من التّيسير إذ هو تيسير ما كان فيه عسر في الأصل، ولا يدخل فيه ما كان في الأصل ميسّرا‏.‏

ب - التّرخيص‏:‏

3 - التّرخيص لغة التّيسير والتّسهيل‏.‏ والاسم الرّخصة‏.‏ ويقال‏:‏ رخّص له في الأمر، وأرخص له فيه‏:‏ إذا أذن له فيه بعد النّهي عنه، ومنه الحديث‏:‏ «وأرخص في السّلم» أي أذن فيه‏.‏ وأصله في اللّغة من الرّخاصة، وهي في النّبات هشاشته ولينه، وفي المرأة نعومة بشرتها وليونتها‏.‏ ومنه الرّخص لانخفاض السّعر، ضدّ الغلاء، لما في الرّخص من السّهولة، وفي الغلاء من الشّدّة‏.‏

والتّرخيص في الاصطلاح أن يجعل في الأمر سهولة‏.‏ والرّخصة تستعمل باصطلاحين‏:‏

الأوّل‏:‏ الحكم النّازل باليسر بعد العسر لعذر من الأعذار‏.‏

والثّاني‏:‏ وهو أخصّ من الأوّل‏:‏ ما استبيح مع قيام المحرّم‏.‏

فالإذن في السّلم مع انعدام المبيع رخصة من بيع المعدوم على التّعريف الأوّل، وليس رخصة على التّعريف الثّاني، إلّا أن يكون مجازا‏.‏ وكذا ما نسخ عنّا من الآصار والأغلال الّتي كانت على من قبلنا رخصة على الأوّل، لا على الثّاني، لأنّ التّحريم لم يبق علينا‏.‏

ج - التّوسعة‏:‏

4 - التّوسعة مصدر وسّع، أي صيّر الشّيء واسعا، والسّعة ضدّ الضّيق، والسّعة الغنى والرّفاهية‏.‏ ووسّع اللّه على فلان‏:‏ أغناه ورفّهه، ووسّع فلان على أهله‏:‏ أنفق عليهم عن سعة، أي بما يزيد عن قدر الحاجة‏.‏ فالتّوسعة من التّيسير، بل هي أعلى التّيسير‏.‏

د - رفع الحرج‏:‏

5 - الحرج لغة‏:‏ الضّيق وما لا مخرج له، وقال بعضهم‏:‏ هو أضيق الضّيق‏.‏

سئل ابن عبّاس عن الحرج، فدعا رجلاً من هذيل فقال له‏:‏ ما الحرج فيكم ‏؟‏ فقال‏:‏ الحرجة من الشّجر ما لا مخرج له‏.‏ فقال ابن عبّاس‏:‏ هو ذلك‏.‏ الحرج ما لا مخرج له‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ الحرج ما فيه مشقّة فوق المعتاد‏.‏

ورفع الحرج‏:‏ إزالة ما في التّكليف الشّاقّ من المشقّة برفع التّكليف من أصله، أو بتخفيفه، أو بالتّخيير فيه، أو بأن يجعل له مخرج، كرفع الحرج في اليمين بإباحة الحنث فيها مع التّكفير عنها أو بنحو ذلك من الوسائل، فرفع الحرج لا يكون إلّا بعد الشّدّة، خلافاً للتّيسير‏.‏

هـ - التّوسّط‏:‏

6 - التّوسّط في الأمر أن لا يذهب فيه إلى أحد طرفيه‏.‏

والتّوسّط في الشّريعة من هذا الباب‏.‏ فلا غلوّ فيها ولا تقصير، ولكن هي وسط بينهما‏.‏ والتّوسّط في الأحكام الشّرعيّة أنّها لا تميل إلى جانب الإفراط والتّشديد على العباد، ولا إلى جانب التّيسير الشّديد الّذي يصل إلى حدّ التّحلّل من الأحكام‏.‏

وهذا هو الغالب على أحكام الشّريعة‏.‏ فالتّوسّط نوع من التّيسير، وليس مقابلا له، إذ الّذي يقابل التّيسير التّعسير والتّشديد، أمّا التّوسّط ففيه اليسر لأنّه ليس فيه مشقّة خارجة عن المعتاد، ومثاله يسر الصّلاة والصّوم، إذ فيهما مشقّة، ولكنّها معتادة‏.‏

و - التّشديد والتّثقيل‏:‏

7 - التّشديد والتّثقيل ضدّ التّخفيف، وأصل التّشديد في اللّغة من شدّ الحبل، والشّدّة الصّلابة والقوّة‏.‏

حكم التّيسير

8 - اليسر وانتفاء الحرج صفتان أساسيّتان في دين الإسلام وشريعته، والتّيسير مقصد أساسيّ من مقاصد الشّريعة الإسلاميّة‏.‏ ويدلّ على هذا الأصل آيات كثيرة في كتاب اللّه تعالى، وأحاديث نبويّة صحيحة، وأجمعت الأمّة عليه‏:‏ فمن القرآن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبيكُمْ إبْرَاهيمَ‏}‏ قال ابن عبّاس‏:‏ إنّما ذلك سعة الإسلام وما جعل اللّه فيه من التّوبة والكفّارات‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ العُسرَ‏}‏ وقوله ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفَاً‏}‏‏.‏ ومن السّنّة قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «بعثت بالحنيفيّة السّمحة» أي السّهلة اللّيّنة، وقوله «إنّ هذا الدّين يسر، ولن يشادّ الدّين أحد إلا غلبه» وقوله «إنّ خير دينكم أيسره، إنّ خير دينكم أيسره»‏.‏ وقوله‏:‏ «إنّ اللّه شرع هذا الدّين فجعله سمحاً سهلاً واسعاً ولم يجعله ضيّقاً»‏.‏ ويستأنس لذلك بما روي عن الصّحابة والتّابعين في هذا الباب، قول ابن مسعود إيّاكم والتّنطّع، إيّاكم والتّعمّق، وعليكم بالعتيق أي‏:‏ الأمر القديم، أي‏:‏ الّذي كان عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏

وقول إبراهيم النّخعيّ‏:‏ «إذا تخالجك أمران فظنّ أنّ أحبّهما إلى اللّه أيسرهما «‏.‏

أنواع اليسر في الشّريعة

9 - يسر الشّريعة على ثلاثة أنواع‏:‏

1 - تيسير معرفة الشّريعة والعلم بها وسهولة إدراك أحكامها ومراميها‏.‏

2 - تيسير التّكاليف الشّرعيّة من حيث سهولة تنفيذها والعمل بها‏.‏

3 - أمر الشّريعة للمكلّفين بالتّيسير على أنفسهم وعلى غيرهم‏.‏

النّوع الأوّل‏:‏ تيسير العلم بالشّريعة

10 - اقتضت حكمة اللّه تعالى أن حمل هذه الشّريعة الإسلاميّة - أوّل ما حملها - قوم أمّيّون، لم يكن لهم معرفة بكتب الأقدمين ولا بعلومهم، من العلوم الكونيّة، والمنطق، والرّياضيّات، وغيرها، ولا من العلوم الدّينيّة، بل كانوا باقين قريبا من الفطرة‏.‏ وأرسل اللّه إليهم رسولا أمّيّا لم يكتب كتابا، ولم يخطّه بيمينه، ولا عرف أن يقرأ شيئا ممّا كتبه الكاتبون‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏هو الَّذي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهمْ يَتْلُو عَلَيهمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهمْ وَيُعَلِّمْهُمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبين‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتَ تَتلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كتابٍ وَلا تَخُطُّه بِيَمِينكَ إذاً لارْتَابَ المُبْطِلُونَ‏}‏ ثمّ إنّ اللّه عزّ وجلّ أراد أن تكون هذه الشّريعة المباركة خاتمة الشّرائع، فهي لمن عاصر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولمن بعده إلى يوم القيامة، وهي عامّة للبشر جميعا، ليست للعرب وحدهم، بل لهم ولمن عداهم من الأمم في مشارق الأرض ومغاربها، وفيهم القويّ والضّعيف، والعالم والجاهل، والقارئ والأمّيّ، والذّكيّ والبليد‏.‏ فاقتضت حكمته تعالى أن تكون تلك الشّريعة العامّة الخاتمة ميسورا فهمها وتعقّلها والعلم بها لتسع الجميع، إذ لو كان العلم بها عسيرا، أو متوقّفا على وسائل علميّة تدقّ على الأفهام لكان من العسير على جمهور المكلّفين بها أخذها ومعرفتها أوّلا، والامتثال لأوامرها ونواهيها ثانيا‏.‏ ومن هذا الباب ما يلي‏:‏

أ - تيسير القرآن‏:‏

11 - جعل اللّه عزّ وجلّ القرآن ميسّر التّلاوة والفهم على الجمهور، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَإنَّمَا يَسَّرْنَاه بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِه المُتَّقِينَ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَد يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَل مِنْ مُدَّكِرٍ‏}‏‏.‏ ومن تيسيره أنّ اللّه تعالى أنزله على سبعة أحرف مراعاة لحال النّاس من حيث القدرة على النّطق‏.‏ ويدلّ على ذلك ما رواه أبيّ بن كعب قال‏:‏ «لقي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جبريل، فقال‏:‏ يا جبريل إنّي أرسلت إلى أمّة أمّيّة، إلى الشّيخ والعجوز، والغلام والجارية، والشّيخ الّذي لم يقرأ كتاباً قطّ‏.‏ فقال‏:‏ إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف»‏.‏

ويرجع تيسير القرآن إلى أربعة أوجه‏:‏

الأوّل‏:‏ أنّه ميسّر للتّلاوة لسلاسته وخلوّه من التّعقيد اللّفظيّ‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّه ميسّر للحفظ، فيمكن حفظه ويسهل‏.‏

قال الرّازيّ‏:‏ ولم يكن شيء من كتب اللّه تعالى يحفظ عن ظهر قلب غير القرآن‏.‏

الثّالث‏:‏ سهولة الاتّعاظ به لشدّة تأثيره في القلوب، ولاشتماله على القصص والحكم والأمثال، وتصريف آياته على أوجه مختلفة، كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذلكَ أَنْزَلْنَاه قُرْآنَاً عَرَبِيَّاً وَصَرَّفْنَا فيه مِن الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أو يُحْدِثُ لَهمْ ذِكْرَاً‏}‏‏.‏

الرّابع‏:‏ أنّه جعله بحيث يعلق بالقلوب، ويستلذّ سماعه، ولا يسأم من سماعه وفهمه، ولا يقول سامعه‏:‏ قد علمت وفهمت فلا أسمعه، بل كلّ ساعة يجد منه لذّة وعلما‏.‏

وهذا التّيسير في اللّفظ والمعنى إنّما هو في الغالب، وبالنّسبة إلى جمهور النّاس‏.‏

وفي القرآن من الأسرار، والمواعظ، والعبر، ما يدقّ عن فهم الجمهور، ويتناول بعض الخواصّ منه شيئا فشيئا بحسب ما ييسّره اللّه لهم ويلهمهم إيّاه، يفتح على هذا بشيء لم يفتح به على الآخر، وإذا عرض على الآخر أقرّه‏.‏

ب - التّيسير في علم الأحكام الاعتقاديّة‏:‏

12 - التّكاليف الاعتقاديّة في الإسلام ميسّر تعقّلها وفهمها، يشترك في فهمها الجمهور، من كان منهم ثاقب الفهم ومن كان بليدا، ولو كانت ممّا لا يدركه إلا الخواصّ لما كانت الشّريعة عامّة، ولذلك كانت المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ‏.‏ فعرّفت الشّريعة الأمور الإلهيّة بما يسع الجمهور فهمه، وحضّت على النّظر في المخلوقات، والسّير في الأرض، والاعتبار بآثار الأمم السّالفة، وأحالت فيما يقع فيه الاشتباه من الأمور الإلهيّة إلى قاعدة عامّة‏:‏ ‏{‏لَيسَ كَمِثْلِه شَيءٌ‏}‏، وسكتت عن أشياء لا تهتدي العقول إليها‏.‏ وممّا يدلّ على ذلك أيضا أنّ الصّحابة رضي الله عنهم لم يبلغنا عنهم من الخوض في هذه الأمور ما يكون أصلا للباحثين، والمتكلّفين، كما لم يأت ذلك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكذلك التّابعون المقتدى بهم لم يكونوا إلّا على ما كان عليه الصّحابة‏.‏ وثبت النّهي عن كثرة السّؤال، وعن تكلّف ما لا يعني، عامّا في الاعتقاديّات والعمليّات‏.‏

ج - التّيسير في علم الأحكام العمليّة‏:‏

13 - راعى الشّارع الحكيم أميّة المدعوّين وتنوّع أحوالهم في الفهم، فجعل الأحكام العمليّة ممّا يسهل تعقّلها وتعلّمها وفهمها، فمن ذلك أنّه كلّفهم بجلائل الأعمال العباديّة، وقرّب المناط فيها بحيث يدركها الجمهور، وجعله ظاهرا منضبطا، كتعريف أوقات الصّلاة بالظّلال وطلوع الفجر، وزوال الشّمس، وغروبها، وغروب الشّفق، وكذلك في الصّيام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكمْ الخَيطُ الأبْيضُ مِن الخَيطِ الأسْوَدِ مِن الفَجْرِ‏}‏‏.‏ وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب‏:‏ الشّهر هكذا وهكذا» وقال‏:‏ «لا تصوموا حتّى تروا الهلال ولا تفطروا حتّى تروه، فإن غمّ عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين» ولم يطالبنا بجعل ذلك مرتبطا بحساب مسير الشّمس والقمر في المنازل، لما في ذلك من الدّقّة والخفاء‏.‏

ولا يعني ذلك خلوّ الشّريعة ممّا يستقلّ الخاصّة بإدراكه، وهي الأمور الاجتهاديّة، الّتي تخفى على الجمهور، غير أنّ عامّة الأحكام الّتي يحتاجها المكلّف، وتقوم مقام الأسس من الدّين، ظاهرة لا تخفى على الجمهور، وما سوى ذلك يحتاج في تطلّبه إلى بذل جهد، إلا أنّه يتيسّر لأهل العلم الوصول إليه باتّباع ما بيّنته الشّريعة من طرق الاجتهاد‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ يسر الأحكام الشّرعيّة العمليّة

14 - يسر الأحكام الشّرعيّة العمليّة يتشعّب فيه النّظر شعبتين‏:‏

1 - اليسر الأصليّ، وهو اليسر في ما شرع من الأحكام من أصله ميسّرا لا عنت فيه‏.‏

2 - اليسر التّخفيفيّ، وهو ما وضع في الأصل ميسّرا، غير أنّه طرأ فيه الثّقل بسبب ظروف استثنائيّة، وأحوال تخصّ بعض المكلّفين، فيخفّف الشّرع عنهم من ذلك الحكم الأصليّ‏.‏

الشّعبة الأولى‏:‏ اليسر الأصليّ

15 - التّيسير الأصليّ صفة عامّة للشّريعة الإسلاميّة في أحكامها الأصليّة الّتي تلزم المكلّفين‏.‏ قال الشّاطبيّ‏:‏ إنّ الشّارع لم يقصد إلى التّكليف بالشّاقّ والإعنات فيه‏.‏

ويستدلّ لذلك بأمور، منها‏:‏

16 - أ - النّصوص الّتي تبيّن ذلك صراحة، منها ما تقدّم، ومنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسَاً إلا وسْعَهَا لَها مَا كَسَبتْ وَعليها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤاخذْنَا إنْ نَسِينَا أو أَخْطَأنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ علينا إصْرَاً كَمَا حَمَلْتَه على الَّذينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه‏}‏ ومنها ما امتنّ اللّه تعالى به في سياق بيان بعض الأحكام الفرعيّة من أنّه لا يكلّف نفسا إلا وسعها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسَاً إلا وسْعَها أُولئكَ أصْحَاُب الجَنَّةِ هم فيها خَالِدُونَ‏}‏ وقوله جلّ وعلا‏:‏ ‏{‏وَعلى المَولُودِ لَه رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْروفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلا وسْعَها‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتيمِ إلا بِالَّتي هي أَحْسَن حَتَّى يَبْلغَ أَشُدَّه وَأوفوا الكَيلَ وَالمِيزَانَ بِالقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسَاً إلا وسْعَهَا‏}‏‏.‏

ومن اليسر الأصليّ إعفاء الصّغير، والمجنون، من سريان الأحكام التّكليفيّة عليهما، وإعفاء النّساء من وجوب صلاة الجمعة، ومن تأكّد صلاة الجماعة أو وجوبها على الخلاف في ذلك‏.‏ وهذا معنى كثير من الاشتراطات الّتي تشترط لوجوب حقوق اللّه تعالى من العبادات، والحدود، وبعض حقوق العباد كحقّ القصاص، وحقّ حدّ القذف، فقد اشترط فيها جميعا البلوغ والعقل، واشترط في حدّ الزّنى أربعة شهود تقليلا لحالات وجوب الحدّ، تخفيفا وتيسيرا، واشترط للرّجم لشدّته الإحصان تخفيفا عن غير المحصن، واستثني الوليّ الفقير من عدم جواز الأكل من مال اليتيم، تخفيفا عنه، فقد أذن له أن يأكل بالمعروف‏.‏ 17 - ب - ومنها ما عهد في القرآن من أنّه يستثني من نصوص التّكليف الصّور الّتي فيها عسر فييسّرها، ومن ذلك أنّ اللّه تعالى أذن للوليّ في مخالطة اليتيم في النّفقة بعد أن نهى عن أكل أموالهم وأمر بإصلاحها فقال‏:‏ ‏{‏وَيَسْألُونَكَ عَن اليَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهمْ خَيرٌ‏}‏ ثمّ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإنْ تُخَالِطُوهم فَإخوَانُكمْ‏}‏ فأذن في المخالطة، لأنّ في عزل نفقة اليتيم وحده عسرا على الوليّ‏.‏

والمخالطة أن يأخذ من مال اليتيم بقدر ما يرى أنّه كافيه، بالتّحرّي، فيجعلها مع نفقة أهله، مع أنّ بعضهم قد يأكل أكثر من بعض فلا يكون ذلك إصلاحاً‏.‏ ثمّ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ‏}‏ أي بإيجاب عزل نفقة اليتيم وحدها ليأمن الوليّ من أكله أو أهله شيئا منها‏.‏ ودلّت الآية على أنّ المشقّة على هذه الأمّة ليست مرادة للّه تعالى‏.‏

18 - ج - ومنها ما علم في مواضع كثيرة من السّنّة النّبويّة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتفادى ما يكون سببا لتكاليف قد تشقّ على المسلمين، وكان يتجنّب أن يصنع شيئا يكون فيه مشقّة على أصحابه إذا اقتدوا به فيه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَد جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفسِكُم عَزِيزٌ عَلَيه مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنينَ رَءوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ فمن ذلك أنّه صلى الله عليه وسلم كان يحثّ أصحابه على ترك السّؤال لئلّا تفرض عليهم فرائض بسبب سؤالهم‏.‏ فقد «سأله رجل عن الحجّ‏.‏ أفي كلّ عام هو ‏؟‏ فقال‏:‏ لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم» وقال‏:‏ «لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند كلّ صلاة»‏.‏ وفي حديث آخر «أنّه صلى الله عليه وسلم كان يحبّ اليسر على النّاس»‏.‏ «وقالت عائشة‏:‏ خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عندي وهو مسرور طيّب النّفس ثمّ رجع إليّ وهو كئيب، فقال‏:‏ إنّي دخلت الكعبة ووددت أنّي لم أكن دخلتها إنّي أخاف أن أكون أتعبت أمّتي من بعدي» وقال‏:‏ «لولا أن أشقّ على أمّتي ما قعدت خلف سريّة قطّ»‏.‏

19 - د - ومنها الإجماع على عدم قصد المشقّة والعنت في التّكليف، وأنّها وضعت على قصد الرّفق والتّيسير، وعلى هذا لم يزل أهل العلم والفتيا في الأمّة على طلب اليسر على النّاس‏.‏

درجات المشاقّ، والتّكليف بها

20 - ليس معنى يسر الشّريعة خلوّ جميع التّكاليف في الشّريعة الإسلاميّة من جنس المشقّة أصلا، بل إنّ التّكليف، ما سمّي بهذا إلّا لأنّه طلب ما فيه كلفة ومشقّة، فلا يخلو شيء من التّكاليف عن المشقّة، وبيان ذلك أنّ المشقّة على درجات‏:‏

الدّرجة الأولى

21 - المشقّة الّتي لا يقدر العبد على حملها أصلا، فهذا النّوع لم يرد التّكليف به في الشّرع أصلاً، إذ لا قدرة للمكلّف عليه في العادة، فلا يقع التّكليف به شرعاً، وإن جاز عقلا، وقيل يمتنع التّكليف به شرعاً وعقلاً‏.‏ فليس في الشّرع مثل تكليف الإنسان بحمل جبل، ولا كتكليف مقطوع الرّجلين القيام أو المشي‏.‏

وهذا التّكليف كما أنّه لم يرد في الشّريعة الإسلاميّة، لم يوجد في الشّرائع السّماويّة السّابقة أيضا، بخلاف الأنواع الآتية‏.‏ ويعبّر الأصوليّون عن هذا بمنع التّكليف بما لا يطاق‏.‏

الدّرجة الثّانية

22 - أن يكون الفعل مقدوراً عليه، لكن فيه مشقّة عظيمة، كمشقّة الخوف على النّفوس والأعضاء ومنافع الأطراف ونحو ذلك‏.‏

فالتّكليف بهذا النّوع غير واقع في الشّريعة الإسلاميّة، وإن كان واقعاً فيما قبلها من الشّرائع‏.‏ ودليل ذلك قوله تعالى في بيان المنّة على أهل الكتاب بإرسال محمّد صلى الله عليه وسلم ‏{‏الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبيَّ الأمّيَّ الَّذي يَجِدُونَه مَكتُوبَاً عندهم في التَّورَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأمُرهم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهم عَن المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لهم الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عليهم الخَبَائثَ وَيَضَعُ عَنْهم إصْرَهم وَالأغلالَ الَّتي كَانتْ عليهم‏}‏ والإصر العهد الثّقيل، والتّكاليف الثّقيلة الّتي تخرج مشقّتها عن المعتاد‏.‏ أي ما عهد عليهم من عهد ثقيل‏.‏ وفي خاتمة سورة البقرة ‏{‏لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسَاً إلا وسْعَهَا لها مَا كَسَبتْ وَعليها مَا اكْتَسَبتْ رَبَّنَا لا تُؤاخِذْنَا إنْ نَسِينا أو أخْطَأنا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَينا إصْرَاً كَما حَمَلْتَه على الَّذينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلنا مَا لا طَاقَةَ لنا بِهِ‏}‏ فقد ورد في الحديث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «قال اللّه تعالى‏:‏ قد فعلت» أي‏:‏ أنّ اللّه استجاب دعاء المؤمنين‏.‏ وموضع الدّلالة منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ علينا إصْرَاً كما حَمَلتَه على الَّذينَ مِنْ قَبْلِنَا‏}‏ ومن تلك التّكاليف الثّقيلة الّتي شدّد بها على بني إسرائيل‏:‏ أنّهم كانوا إذا أتوا بخطيئة حرّم عليهم من الطّعام بعض ما كان حلالا لهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِظُلمٍ مِن الَّذينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عليهم طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهمْ‏}‏‏.‏

الدّرجة الثّالثة

23 - المشقّة الّتي تطاق ويمكن احتمالها لكن فيها شدّة بحيث تشوّش على النّفوس في تصرّفها، وتقلقها في القيام بما فيه تلك المشقّة‏.‏ ويكون الإنسان معها في ضيق وحرج، فلا يشعر بالرّاحة لخروج المشقّة عن المعتاد في الأعمال العاديّة‏.‏

وهذا النّوع قد يكون في الأصل من الدّرجة الرّابعة، لأنّه إذا فعل مرّة واحدة لم يحصل منه للإنسان الضّيق والحرج، ولكن إذا تكرّر ودام جاء الحرج بسبب الدّوام عليه‏.‏

قال الشّاطبيّ‏:‏ ويوجد هذا في النّوافل وحدها إذا تحمّل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجه ما، إلّا أنّه في الدّوام يتعبه حتّى يحصل للنّفس بسببه ما يحصل لها بالعمل مرّة واحدة في غيره قال‏:‏ وهذا هو الموضع الّذي شرع له الرّفق والأخذ من العمل بما لا يحصّل مللا، حسبما نبّه عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم في نهيه عن الوصال، وعن التّنطّع والتّكلّف‏.‏ وقال‏:‏ «خذوا من الأعمال ما تطيقون فإنّ اللّه لن يملّ حتّى تملّوا» وقال‏:‏ «القصد القصد تبلغوا» وقال‏:‏ «إنّ المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»‏.‏

الدّرجة الرّابعة

24 - المشقّة الّتي في المقدور عليه، وليس فيه من التّأثير في تعب النّفس خروج عن المعتاد في الأعمال العاديّة، ولكن نفس التّكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التّكليف‏.‏ ففيه مشقّة على النّفس من هذه الجهة، ولذلك أطلق عليه لفظ «التّكليف «وهو في اللّغة يقتضي معنى المشقّة، لأنّ العرب تقول «كلّفته تكليفا «إذا حمّلته أمرا يشقّ عليه وأمرته به، وتقول‏:‏ «تكلّفت الشّيء «إذا تحمّلته على مشقّة‏.‏ فمثل هذا يسمّى مشقّة من هذا الوجه، لأنّه دخول في أعمال زائدة على ما تقتضيه الحياة الدّنيا‏.‏

وأقلّ ما فيه في الأعمال الدّينيّة إخراج المكلّف عمّا تهواه نفسه، ومخالفة الهوى فيه مشقّة ما‏.‏ ولكن الشّريعة جاءت لإخراج المكلّف من اتّباع هواه حتّى يكون عبدا للّه اختيارا كما هو عبد للّه اضطرارا‏.‏ وهذا النّوع لازم لكلّ تكليف، إذ لا تخلو منه التّكاليف الشّرعيّة‏.‏ والمشقّة الّتي فيه - وإن سمّيت مشقّة من حيث اللّغة - إلا أنّها لا تسمّى في العادة المستمرّة مشقّة، كما لا يسمّى في العادة مشقّة طلب المعاش بالحرف وسائر الصّنائع، بل أهل العقول، وأصحاب العادات يعدّون المنقطع عنه كسلان، ويذمّونه بذلك، فكذلك المعتاد في التّكاليف الشّرعيّة‏.‏ فقد تبيّن بهذا أنّ الدّرجة الأولى لا تكليف بها أصلاً، فالشّريعة لا تكلّف العباد بما ليس مقدوراً لهم أصلاً، وكذلك الدّرجة الثّانية، فالمشقّات الفادحة كقتل الإنسان نفسه، أو قطع عضو من أعضائه لا تكليف بها في هذه الشّريعة، وإن حصل التّكليف بها فيما قبلها من الشّرائع‏.‏ وأمّا الدّرجة الثّالثة فهي موضع النّظر، وتفصيل ابن عبد السّلام يقتضي أنّه يجوز التّكليف بأدناها، أو أوسطها دون أعلاها، وإنّه إن حصل التّكليف بما مشقّته معتادة، فحصل فيه خروج عن المعتاد، جاء فيه التّخفيف، كما يأتي‏.‏ وأمّا الدّرجة الرّابعة، من المشقّات المعتادة في الأعمال فلا تمنع التّكليف، غير أنّه لا بدّ من النّظر في بيان معنى الاعتياد فيه، إذ قد يكون في التّكليف شدّة، وهو مع ذلك واقع في حيّز هذه الدّرجة الرّابعة، وتفصيل ذلك يأتي في الملحق الأصوليّ‏.‏

مواضع المشقّة الواردة في الشّريعة

اليسر وإن كان هو الصّبغة العامّة للشّريعة الإسلاميّة، وهو الأصل في أحكامها، إلا أنّ فيها أحكاما فيها نوع من المشقّة لدواع تقتضي ذلك، منها‏:‏

25 - أوّلاً‏:‏ أن تكون المصلحة الّتي ترجى من ذلك الفعل المحكوم فيه مصلحة عظيمة لا يمكن تحصيلها إلّا بتعرّض البعض للمشاقّ، كإنقاذ الغرقى والحرقى والهدمى، فإنّ الّذي يتصدّى لذلك قد يتعرّض لأخطار جسيمة، وكذلك درء المفاسد العظيمة الّتي لا يمكن درؤها إلا بتعرّض البعض للمشاقّ، كالجهاد لدفع المعتدين على الدّيار، والأعراض، والحقوق، فكلّ ذلك يعرّض حياة القائم به للأخطار، ومع ذلك فهو مطلوب شرعا لقوله تعالى‏:‏‏{‏انْفرُوا خِفَافَاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بأمْوَالكمْ وَأنْفُسِكمْ في سَبيلِ اللَّهِ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيكمْ القِتَالُ وهو كُرهٌ لَكمْ وَعَسَى أنْ تَكْرَهوا شَيئاً وهو خَيرٌ لكمْ‏}‏ وما ورد أنّ عبادة بن الصّامت قال‏:‏

«بايعنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على السّمع والطّاعة، في منشطنا، ومكرهنا، وعسرنا، ويسرنا، وأثرة علينا»‏.‏

26 - ثانياً‏:‏ حالات من الاحتياط فيها نوع من العسر، والغرض منه غالبا اطمئنان المكلّف إلى خروجه من عهدة التّكليف بيقين‏.‏ ومن ذلك أن يتذكّر أنّه نسي صلاة من يوم لا يدري، أيّ الخمس هي، فعليه أن يصلّي الخمس، أو فاتته صلاة لا يدري أهي الظّهر أم العصر، فيقضيهما، وإذا تعارض دليلان أحدهما يقتضي التّحريم والآخر يقتضي الإباحة، يغلب التّحريم مع أنّ الإباحة أيسر، ولو اشتبهت محرم بأجنبيّات محصورات لم تحلّ أيّ واحدة منهنّ، أو اشتبهت ميتة بمذكّاة لم يجز تناول شيء منهما‏.‏ لكن إن وصل الأمر بالاحتياط إلى العسر والحرج، فالأكثرون على تغليب قاعدة رفع الحرج، فلو كان النّسوة اللّاتي اختلطت بهنّ محرمه غير محصورات بأن اختلطت بنساء قرية كبيرة، فله النّكاح منهنّ، ولو اختلط حمام مملوك بحمام مباح لا ينحصر جاز له الصّيد‏.‏ ولو اختلط في البلد حرام لا ينحصر لم يحرم الشّراء منه، بل يجوز الأخذ منه، إلا أن يقترن به علامة على أنّه من الحرام‏.‏ وربّما غلّب البعض قاعدة الاحتياط على قاعدة رفع الحرج في بعض الصّور‏.‏

من شرع له التّيسير

27 - التّيسير في الشّريعة الإسلاميّة إنّما هو للمؤمنين المتّقين‏.‏

أمّا الكافر فله التّشديد والتّضييق والتّغليظ بسبب كفره باللّه وجحده لنعمته وحقّه، ولرفضه الدّخول تحت أحكام اللّه‏.‏ قال اللّه تعالى ‏{‏مُحمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذينَ مَعَه أَشِدَّاءُ على الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بينهم‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أيُّهَا النَّبيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافقينَ وَاغْلظْ عليهم وَمَأواهمْ جَهَنَّمُ وَبئسَ المَصِير‏}‏‏.‏ ولذلك شرع قتال الكفّار وإدخالهم تحت الجزية والصّغار‏.‏ فإن دخل الكافر في الذّمّة وترك المحاربة، أو دخل مستأمنا، حصل له في الشّريعة أنواع من التّيسير، كالمحافظة عليه، ومنع ظلمه في النّفس أو المال، وإقراره على ما يجوز في دينه‏.‏ وانظر مصطلح ‏(‏أهل الذّمّة، وجهاد‏)‏‏.‏ وأمّا الفاسق والمعتدي والظّالم من أهل الإسلام فله من التّشديد بحسب فسقه وعدوانه وظلمه بقدر الذّنب الّذي جناه، وله من التّيسير بحسب إسلامه وإيمانه‏.‏ فمن التّشديد على الفاسق إقامة الحدّ على الزّاني برجمه حتّى الموت إن كان محصنا، وهي من أعسر أنواع القتل وأشدّها، وبجلده مائة جلدة إن لم يكن محصنا‏.‏ ومنها قطع يد السّارق، وقتل قاطع الطّريق، أو صلبه، أو تقطيع يده ورجله من خلاف، أو نفيه من الأرض‏.‏ والتّفصيل في الحدود‏.‏

مواضع اليسر في الأحكام الشّرعيّة

28 - الأحكام التّكليفيّة خمسة‏:‏ الإباحة، والنّدب، والكراهة، والإيجاب، والتّحريم‏.‏

فأمّا المباحات فلا مشقّة فيها من جهة الشّرع، لأنّ الخيار في فعلها أو تركها إلى المكلّف، والشّارع لم يدع فيما يتعلّق بها إلى فعل أو ترك‏.‏

وأمّا المندوبات والمكروهات فنظرا إلى عدم استلزام فعلها أو تركها لعقوبة يعلم أنّ للمكلّف فيها خيارا كذلك، وإن حثّ الشّارع على فعل المندوب وترك المكروه لتحصيل الأجر، إلا أنّ ذلك إذا شقّ على المكلّف فينبغي له أن يترك المندوب أو يفعل المكروه رفقا بنفسه كما يأتي في النّوع الثّالث‏.‏ هذا بالإضافة إلى أنّ الفعل المكلّف به في المندوبات في الشّريعة ليس فيه مشقّة لذاته، بل الّذي ندب الشّارع إلى فعله من صلاة، أو صوم، أو اعتكاف، أو غير ذلك ليس فيه شيء يخرج عن المعتاد في المشقّات، وكذا ما كره لنا فعله ليس في تركه مشقّة خارجة عن العادة‏.‏ وإنّما يتصوّر أن تكون المشقّة فيما ألزم اللّه تعالى بفعله من الواجبات، أو ألزم بتركه من المحرّمات، فإنّها بالإلزام وفرض العقوبة الدّنيويّة، أو الأخرويّة، أو كليهما على المخالف لا يكون للمكلّف فيهما خيار‏.‏

فأمّا باب المحرّمات فإنّ التّيسير فيه واضح، فإنّ الشّارع الحكيم برحمته ضيّق باب التّحريم جدّا، حتّى إنّ محرّمات الأطعمة يوردها القرآن غالبا على سبيل الحصر، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيكمْ المَيتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِّلَ لِغيرِ اللَّهِ بِهِ‏}‏ فالأصل في المطعومات ونحوها الإباحة، والتّحريم استثناء، ثمّ إنّه تعالى لم يحرّم ما يشقّ الامتناع عنه كالماء أو الهواء أو اللّباس أو المسكن‏.‏ وإنّما انصبّ التّحريم على أشياء معيّنة ممّا لا يشقّ تركه‏.‏ وتلك المحرّمات إنّما حرّمها لما فيها من الأضرار على صحّة الإنسان، أو على تصرّفاته كما في تحريم الخمر، ولم يحرّم إلا شيئا متمحّضا للضّرر، أو ضرره أغلب من نفعه‏.‏ وهذا الّذي قد يكون فيه نفع يكون في الحلال عوض عنه‏.‏

ثمّ إن اضطرّ الإنسان إلى المحرّم يسّر اللّه عليه، كما يأتي بيانه في الشّعبة الثّانية‏.‏

وأمّا الفرائض والواجبات فلم يكلّفنا اللّه تعالى فيها ما فيه مشقّة خارجة عن المعتاد، ولا ترك العباد من غير تكليف، بل كانت الشّريعة في هذا الأمر جارية على الطّريق الوسط الأعدل‏:‏ لا تميل إلى فرض ما فيه مشقّة تبهظ المكلّف أو تقعده عن العمل في الحال أو المآل، أو تدخل عليه الخلل في نفسه أو عقله أو ماله‏.‏

ومن جهة أخرى‏:‏ ما تركت الشّريعة الإنسان دون تكليف يحصل به الابتلاء، فإنّه لم يخلق عبثا ولم يترك سدى، بل كلّفته بتكاليف تقتضي فيه غاية التّوسّط والاعتدال، كتكاليف الصّلاة، والصّوم، والزّكاة، والحجّ، والجهاد‏.‏

وهذا لا يناقض اليسر، فإنّ اليسر يناقضه العسر، أمّا الوسط فهو داخل في اليسر، إذ لا عسر فيه‏.‏ والوسط - كما قال الشّاطبيّ - هو معظم الشّريعة، فهي وسط بين التّشديد والتّخفيف‏.‏ فمعظمها محمول على التّوسّط، لا على مطلق التّخفيف ولا على مطلق التّشديد‏.‏ فالصّلاة مثلا‏:‏ خمس مرّات كلّ يوم، كلّ صلاة منها ركعات معدودة، لا تتضمّن فعلا شاقّا، بل ما فيها من القيام، والقراءة، والرّكوع، والسّجود، والأذكار كلّها أمور ميسّرة، حتّى إنّه لم يفترض من القراءة فيها إلّا القليل، ولا من الأذكار إلّا القليل، وتعلّمها وحفظها أمر ميسور‏.‏ ولكن قد تأتي المشقّة في الصّلاة من جهة المحافظة على إقامتها على الوجه الأمثل ومن جهة الاستمرار والدّوام عليها، مع مخالفتها في بعض الأوقات لراحة البدن، وللانطلاق مع الأعمال وهوى النّفوس، لكن ذلك ليس بمشقّة في الحقيقة عند أهل التّقوى‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ وِإنَّهَا لَكَبيرةٌ إلا على الخَاشِعينَ الَّذينَ يَظُنّونَ أنَّهمْ مُلاقو رَبِّهم وَأنَّهم إليه رَاجعونَ‏}‏‏.‏

والزّكاة عبادة ماليّة تفرض على المسلم في ماله مرّة كلّ عام، وذلك ميسور غير معسور، ولم تفرض إلّا في الأموال النّامية أو القابلة للنّماء دون ما لا يقبل ذلك من المساكن والأثاث والممتلكات الّتي هي للاستعمال الخاصّ، كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس على المؤمن في عبده ولا فرسه صدقة»‏.‏ وفرضت بنسب يسيرة تتفاوت غالبا تبعا للجهد المبذول‏.‏ فالخمس في الرّكاز، لأنّ الجهد فيه يسير جدّا مع عظم ما يحصل به، والعشر في الخارج من الأرض إن كانت بعلا، ونصف العشر إن سقيت بالنّضح، وربع العشر في الأموال النّاضّة، ومثل ذلك أو أقلّ منه في السّائمة، حتّى إنّ الغنم الّتي تبلغ ‏(‏400‏)‏ إلى ‏(‏499‏)‏ شاة، فيها في كلّ مائة شاة واحدة وذلك واحد بالمائة أو أقلّ، بالإضافة إلى ما في فريضة الزّكاة من أنواع التّيسير الّتي تعلم بتتبّع أحكامها في كتب الشّريعة‏.‏

وهكذا غير الصّلاة والزّكاة من فرائض الإسلام تعرف أوجه ما فيها من اليسر، وأنّها أفعال، وأقوال، وتكاليف موضوعة على قدر طاقة البشر دون مبالغة ولا تشديد‏.‏

أمّا الأحكام الّتي تضمّنتها الشّريعة لتسهيل هذه الأفعال المكلّف بها والخروج عن عهدتها فهي كثيرة منها‏:‏

التّوسيع في الواجبات من حيث الزّمان، كصلوات الفرائص، فإنّ فعلها لا يستغرق إلّا جزءا يسيرا من وقتها، فيكون لدى المكلّف الفرصة لأدائها في الوقت الّذي لا يشقّ عليه ومنها ما يجب على التّراخي‏.‏

ومنها التّخيير في الأداء بين أمور متعدّدة، فهو أيسر من أداء شيء واحد بعينه‏.‏

ومن التّيسير أيضا ما يقبل التّداخل من الواجبات،فمن ذلك العمرة تدخل في الحجّ لمن قرن‏.‏ ومواضع اليسر في الشّريعة أكثر من أن تحصر، وما ذكر إنّما هو على سبيل التّمثيل لا الحصر‏.‏ وينظر‏:‏ ‏(‏تخيير، وتداخل، وتراخي‏)‏‏.‏

الشّعبة الثّانية‏:‏ اليسر التّخفيفيّ

29 - والمراد به أن يرد التّكليف العامّ بما مشقّته في الأصل معتادة، ولكن يستثنى من ذلك على سبيل التّخفيف بعض الصّور الّتي فيها مشقّة فوق المعتاد‏.‏

حكم الأخذ بالتّخفيفات الشّرعيّة‏:‏

30 - التّثقيل الّذي يعتري المكلّف في عباداته أو معاملاته، يقابله تخفيف من قبل الشّرع‏.‏ والتّخفيف حكم طارئ على الأصل، روعي في تشريعه ضرورات العباد وأعذارهم، فكان ذلك فسحة لهم في مقابلة التّضييق، بحصول الجواز للفعل أو التّرك‏.‏

والتّخفيف قد يوجب الشّارع على المكلّف الأخذ به، وقد يجعله مندوبا في حقّه، وقد يجعل الأخذ به خلاف الأولى كالجمع بين الصّلوات، وقد يبيحه له، فله أن يأخذ به أو يتركه على السّواء‏.‏ ومن التّخفيف الّذي يندب الأخذ به، قصر الصّلاة في السّفر، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ضَرَبْتُم في الأرضِ فَلَيسَ عَليكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِن الصَّلاةِ‏}‏ وبعض الفقهاء يوجب القصر على المسافر‏.‏ ويندب الإفطار في السّفر والمرض لقوله تعالى ‏{‏فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر‏}‏‏.‏

ومن التّخفيف الّذي هو مكروه، أو خلاف الأولى، الفطر في حقّ المسافر إذا لم يجهده الصّوم، وكذا القصر والفطر في سفر المعصية، والجمع بين الصّلاتين، ومنه التّيمّم لمن وجد الماء يباع بأكثر من ثمن المثل وهو قادر على الثّمن‏.‏

وفي بعض هذه الصّور خلاف في حكمها، فيرجع إليها في أبوابها‏.‏

ومن التّخفيف المباح ما رخّص فيه من أحكام المعاملات كبيع السّلم، فإنّ الشّارع قد رخّص فيه على خلاف الأصل، إذ الأصل منعه، لكن رخّص فيه تخفيفا على النّاس في معاملاتهم، وكذا المساقاة، والقراض، وبيع العرايا‏.‏

أسباب التّخفيف

31 - للتّخفيف أسباب بنيت على الأعذار‏.‏ وقد رخّص الشّارع لأصحابها بالتّخفيف عنهم‏:‏ في العبادات، والمعاملات، والبيوع، والحدود وغيرها‏.‏

فكلّ ما تعسّر أمره، وشقّ على المكلّف وضعه، يسّرته الشّريعة بالتّخفيف، وضبطه الفقهاء بالقواعد المحكمة‏.‏ ومن أهمّ هذه الأعذار الّتي جعلت سبباً للتّخفيف عن العباد‏:‏ المرض، والسّفر، والإكراه، والنّسيان، والجهل، والعسر، وعموم البلوى‏.‏

السّبب الأوّل‏:‏ المرض

32 - المريض هو الّذي خرج بدنه عن حدّ الاعتدال والاعتياد، فيضعف عن القيام بالمطلوب منه‏.‏ وقد خصّت الشّريعة المريض بحظّ وافر من التّخفيف، لأنّ المرض مظنّة للعجز‏.‏ فخفّف عنه الشّارع الحكيم في حالة عجزه عن الوضوء، أو خوفه على نفسه من استعمال الماء، أو خوفه زيادة المرض، وكلّ ما كان الماء سببا في الهلاك أو تأخّر شفائه، أو زيادة المرض، رخّص له في ترك الوضوء تخفيفا، والانتقال إلى التّيمّم، يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ أو جَاءَ أَحَدٌ منكم من الغَائِطِ، أو لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدَاً طَيِّبَاً‏}‏‏.‏

كما خفّف عنه غسل العضو المجبّر، إلى المسح على الجبيرة، موقوتا بالبرء‏.‏

وخفّف عنه في حالة عجزه عن القيام للصّلاة، في أدائها قاعدا، أو مضطجعا، أو مومئا، أو ما يتناسب مع عجزه الّذي سبّبه المرض، يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم - لمن أصابه المرض‏:‏ «صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب»‏.‏

وخفّف عن المريض بالإذن له في التّخلّف عن الجمعة والجماعة‏.‏

وخفّف عنه بإجازة التّداوي بالنّجاسات، وإباحة نظر الطّبيب للعورة ولو للسّوأتين‏.‏

وخفّف أيضاً عن المريض في حالة عجزه عن الصّيام، بإباحة الفطر، وقضاء ما فاته، بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ كَانَ مَرِيضَاً أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرَ‏}‏‏.‏

وخفّف عن الشّيخ الهرم، فخصّه بجواز إخراج الفدية بدلا عن الصّيام الّذي عجز عن أدائه، يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَعلى الَّذينَ يُطِيقُونَه فِدْيةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ‏}‏‏.‏

وأجيز للمريض الخروج من معتكفه‏.‏

وخفّف الشّرع عن المريض أيضا بعض الأحكام المتعلّقة بمناسك الحجّ، فأجاز له التّحلّل عند الإحصار، مع ذبح هدي، فإن كان اشترط فلا هدي عليه‏.‏

وأجاز له الاستنابة في رمي الجمار، وأباح له فعل محظورات الإحرام، من لبس القميص ونحوه، كما أباح له حلق رأسه إن كان به جراحة أو قمل واحتاج إلى الحلق، وعليه الفدية، يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً أو به أَذَى مِنْ رَأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أو صَدَقةٍ أو نُسُكٍ‏}‏‏.‏ وقد جعل اللّه سبحانه وتعالى المرض سببا في التّخفيف عن المريض يوم الحساب، وذلك بتكفير ذنوبه، بما يصيبه في الدّنيا، وما يلحقه من ألم، أو همّ، أو غمّ‏.‏ يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا همّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غمّ، حتّى الشّوكة يشاكها، إلا كفّر اللّه بها من خطاياه»‏.‏

هذا بعض من كلّ، ممّا ورد في التّخفيف عن المريض في العبادات‏.‏

وهناك تخفيفات أخرى وردت في حقّ المريض في غير العبادات، يضيق المقام عن ذكرها‏.‏ والاستحاضة، والسّلس، من قبيل المرض، ولهما تخفيفاتهما المعروفة‏.‏

السّبب الثّاني‏:‏ السّفر

33 - السّفر سبب للتّخفيف لما فيه من مشقّة، ولحاجة المسافر إلى التّقلّب في حاجاته، وقضاء مآربه من سفره، ولذا شرع التّخفيف عن المسافر في العبادات‏.‏

قال السّيوطيّ نقلا عن النّوويّ‏:‏ ورخص السّفر ثمان‏:‏ فمنها القصر لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإذا ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ فَلَيسَ عَلَيكمْ جُنَاحٌ أنْ تَقصُرُوا من الصَّلاةِ‏}‏‏.‏ وما روي عن أنس رضي الله عنه قال ‏{‏‏:‏ خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى مكّة فصلّى ركعتين حتّى رجع‏}‏‏.‏ ومنها‏:‏ رخصة الفطر في رمضان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَانَ مِنْكمْ مَرِيضَاً أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏‏.‏ وما روي عن أنس، قال‏:‏ «كنّا نسافر مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصّائم على المفطر، ولا المفطر على الصّائم»‏.‏

ومنها‏:‏ المسح على الخفّين ثلاثة أيّام بلياليها‏.‏ وقد اشترط الفقهاء للسّفر المجوّز للتّخفيف شروطاً منها - عند الجمهور خلافا للحنفيّة - أن يكون السّفر مشروعاً - ولو مباحاً - كالسّفر للحجّ، وصلة الرّحم، والتّجارة لئلا يكون التّخفيف إعانة للعاصي على معصيته‏.‏

السّبب الثّالث‏:‏ الإكراه

34 - الإكراه هو حمل الغير على أمر لا يرضاه وذلك بتهديده بالقتل، أو بقطع طرف، أو نحوهما، إن لم يفعل ما يطلب منه ‏(‏وانظر مصطلح إكراه‏)‏ ، وقد عدّ الشّارع الإكراه بغير حقّ عذرا من الأعذار المخفّفة، الّتي تسقط بها المؤاخذة في الدّنيا والآخرة، فتخفّف عن المكره ما ينتج عمّا أكره عليه من آثار دنيويّة، أو أخرويّة، بحدوده‏.‏

وشبيه بمسألة الإكراه مسألة التّقيّة فإنّ التّقيّة أن يرتكب المحرّم عند الخوف من مكروه دون أن يوجّه إليه إكراه معيّن، أو يترك الواجب لأجل ذلك‏.‏

ولها ضوابط فيما يحلّ بها ‏(‏ر‏:‏ تقيّة‏)‏‏.‏

السّبب الرّابع‏:‏ النّسيان

35 - النّسيان هو عدم استحضار الإنسان ما كان يعلمه، بدون نظر وتفكير، مع علمه بأمور كثيرة‏.‏ وقد جعلته الشّريعة عذراً وسبباً مخفّفاً في حقوق اللّه تعالى من بعض الوجوه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أو أَخْطَأنَا‏}‏‏.‏ فاللّه سبحانه رفع عنّا إثم الغفلة والنّسيان، والخطأ غير المقصود‏.‏ ففي أحكام الآخرة يعذر النّاسي ويرفع عنه الإثم مطلقاً‏.‏ فالنّسيان - كما نصّ عليه السّيوطيّ -‏:‏ مسقط للإثم مطلقاً‏.‏ وذلك تخفيف من اللّه سبحانه وتعالى‏.‏ ويقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تجاوز اللّه عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه»‏.‏

أمّا النّسيان فيما يتعلّق بحقوق العباد فلا يعدّ عذرا مخفّفاً، لأنّ حقّ اللّه مبناه على المسامحة، وحقوق العباد مبناها على المشاحّة والمطالبة، فلا يكون النّسيان عذراً فيها‏.‏

السّبب الخامس‏:‏ الجهل

36 - الجهل عدم العلم بالأحكام الشّرعيّة أو بأسبابها‏.‏ والجهل عذر مخفّف في أحكام الآخرة اتّفاقاً، فلا إثم على من فعل المحرّم أو ترك الواجب جاهلاً، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏‏.‏

أمّا في الحكم فكما تقدّم في النّسيان، إن وقع الجهل في حقوق اللّه تعالى، وكان بترك مأمور لم يسقط بل يجب تداركه، ولا يحصل الثّواب المترتّب عليه بغير تدارك، أو وقع في فعل منهيّ عنه ليس من باب الإتلاف فلا شيء فيه، أو فيه إتلاف لم يسقط الضّمان، كما في قتل صيد الحرم أو قطع شجره‏.‏ وإن كان الجهل في فعل ما فيه عقوبة كان شبهة في إسقاطها، ولا يؤثّر الجهل في إسقاط حقوق العباد‏.‏

وليس كلّ أحد يقبل منه دعوى الجهل بالحكم الشّرعيّ، والقاعدة في ذلك أنّ من جهل تحريم شيء ممّا يشترك في العلم به غالب المسلمين لم يقبل، ما لم يكن قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك، كتحريم الزّنى، والسّرقة، وشرب الخمر والكلام في الصّلاة، والأكل في الصّوم‏.‏

وقد يكون الجهل فيما يخفى حكمه على المسلم العامّيّ دون العالم، فتقبل فيه دعوى الجهل من الأوّل دون الثّاني، ككون القدر الّذي أتى به من الكلام مفسدا للصّلاة، أو كون النّوع الّذي دخل جوفه مفسدا للصّوم، فالأصحّ فيما صرّح به الشّافعيّة عدم البطلان‏.‏

ولا تقبل دعوى الجهل بالأخذ بالشّفعة من قديم الإسلام لاشتهاره، وتقبل في نفي الولد لأنّه لا يعرفه إلا الخواصّ‏.‏ وكلّ من علم تحريم شيء وجهل ما يترتّب عليه لم يفده ذلك، كمن علم تحريم الزّنى والخمر وجهل وجوب الحدّ، فإنّه يحدّ بالاتّفاق، وكمن علم تحريم الطّيب في الإحرام وجهل وجوب الفدية فيه، فتجب الفدية‏.‏

السّبب السّادس‏:‏ الخطأ

37 - الخطأ إمّا أن يكون في الفعل أو في القصد‏.‏ فكلّ من أخطأ في فعله‏:‏ كمن يرمي صيداً فيصيب إنساناً، أو في قصده‏:‏ كمن يرمي شخصاً يظنّه غير معصوم الدّم، فتبيّن أنّه معصوم‏.‏ وكمن اجتهد في التّعرّف على القبلة فأدّاه اجتهاده إلى جهة معيّنة، فتبيّن أنّها خلافها‏.‏ والخطأ بنوعيه من الأسباب المخفّفة فيما يتعلّق بحقوق اللّه تعالى لقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَيسَ عَلَيكمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأتُمْ بِهِ ولكنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكمْ‏}‏‏.‏

وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تجاوز اللّه عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه»‏.‏ وليس الخطأ مسقطاً حقوق العباد، فلو أتلف مال غيره خطأ فعليه ضمانه‏.‏ وإنّما يعتبر مخفّفا في الجنايات، دارئا للحدود، فيخفّف عن القاتل خطأ من القصاص إلى الدّية، ويدرأ الحدّ عن الواطئ غير زوجته خطأ‏.‏

أمّا حقوق اللّه فيسقط الإثم، وقد تسقط مطالبة الشّارع بإعادة العبادة مرّة أخرى‏.‏

هذا وإنّ قواعد التّخفيف المذكورة في أبواب النّسيان والجهل والخطأ هي قواعد غالبيّة يقع فيها كثير من الاستثناءات، وقد حاول بعض أصحاب كتب الأشباه والنّظائر، وكتب القواعد الفقهيّة، حصرها فيرجع إليها هناك‏.‏ وانظر أيضاً ‏(‏نسيان‏.‏ جهل‏.‏ خطأ‏)‏‏.‏

السّبب السّابع‏:‏ العسر وعموم البلوى

38 - يدخل فيه الأعذار الغالبة الّتي تكثر البلوى بها وتعمّ في النّاس، دون ما كان منها نادرا، وذلك أنّ الشّرع فرّق في الأعذار بين غالبها ونادرها، فعفا عن غالبها لما في اجتنابه من المشقّة الغالبة‏.‏ وإنّما تكون غالبة لتكرّرها، وكثرتها وشيوعها في النّاس، بخلاف ما كان منها نادرا فالأكثر أنّه يؤاخذ به، ولا يكون عذراً لانتفاء المشقّة غالباً، فإن كان فيه عسر كمشقّة الاحتراز عمّا لا يدركه الطّرف من رشاش البول فيعفى عنه أيضا‏.‏ ومثّل الشّيخ عزّ الدّين بن عبد السّلام بمن أتى بمحظور الصّلاة نسيانا، فإنّه إن قصر زمانه يعفى عنه اتّفاقا لعموم البلوى، وإن طال زمانه ففيه مذهبان‏:‏ أحدهما‏:‏ يعفى عنه، لأنّه لم ينتهك الحرمة، والآخر‏:‏ لا يعفى عنه لأنّه نادر‏.‏

وأصل ذلك في باب الحيض، فإنّه يسقط الصّلاة حتّى لا تجب ولا يجب قضاؤها، لتكرّرها كلّ شهر، بخلاف قضاء ما تفطره من رمضان، فيجب لأنّه في السّنة مرّة‏.‏ وأيضاً «قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الهرّة إنّها ليست بنجس إنّها من الطّوّافين عليكم» فقد علّل طهارتها بكثرة طوافها أي لعسر الاحتراز عنها لكثرة ملابستها لثياب النّاس وآنيتهم، مع كونها تأكل الفأر والميتة‏.‏ وما روي أنّ «أمّ سلمة قالت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّي امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر ‏؟‏ قال‏:‏ يطهّره ما بعده» وقال‏:‏ «إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه فإن وجد فيهما أذى أو قذراً فليمسحه وليصلّ فيهما»‏.‏

والتّخفيف بالعسر وعموم البلوى يدخل في كثير من أبواب الشّريعة‏.‏

وللتّفصيل ينظر ما جمعه السّيوطيّ وغيره في الأشباه والنّظائر من الفروع الفقهيّة‏.‏ ومن ذلك في المعاملات‏:‏ بيع الرّمّان والبيض ونحوهما في القشر، وبيع الموصوف في الذّمّة وهو السّلم، مع النّهي عن بيع الغرر، والاكتفاء برؤية ظاهر الصّبرة، وأنموذج المتماثل‏.‏

السّبب الثّامن‏:‏ النّقص

39 - إنّ الإنسان إن كانت قدراته ناقصة يعسر عليه أن يتحمّل مثل ما يحمله غيره من أهل الكمال، فاقتضت الحكمة التّخفيف‏.‏ فمن ذلك عدم تكليف الصّبيّ‏.‏

ومنه عدم تكليف الأرقّاء بكثير ممّا يجب على الأحرار، كالجمعة، وتنصيف الحدود والعدد‏.‏ ومنه التّخفيفات الواردة في شأن النّساء‏.‏

فإنّ الشّريعة خفّفت عنهنّ بعض الأحكام،فرفعت عنهنّ كثيراً ممّا ألزم به الرّجال من أحكام‏.‏

ومن ذلك الجماعة، والجمعة، وأباحت بعض ما حرّم على الرّجل كلبس الحرير والذّهب‏.‏

السّبب التّاسع‏:‏ الوسوسة

40 - الموسوس هو من يشكّ في العبادة ويكثر منه الشّكّ فيها حتّى يشكّ أنّه لم يفعل الشّيء وهو قد فعله‏.‏ والشّكّ في الأصل موجب للعود لما شكّ في تركه، كمن رفع رأسه وشكّ هل ركع أم لا، فإنّ عليه الرّكوع، لأنّ الأصل عدم ما شكّ فيه، وليبن على اليقين‏.‏ ومن شكّ أنّه صلّى ثلاثا أو أربعا جعلها ثلاثا وأتى بواحدة ويسجد للسّهو‏.‏ لكن إن كان موسوساً فلا يلتفت للوسواس لأنّه يقع في الحرج، والحرج منفيّ في الشّريعة، بل يمضي على ما غلب في نفسه‏.‏ تخفيفاً عنه وقطعاً للوسواس‏.‏ قال ابن تيميّة‏:‏ والاحتياط حسن ما لم يفض بصاحبه إلى مخالفة السّنّة، فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط‏.‏

السّبب العاشر‏:‏ التّرغيب في الدّخول في الإسلام وحداثة الدّخول فيه

41 - وهذا سبب من أسباب التّيسير يعلم بتتبّع أبواب الفقه، وممّا شرع له من ذلك أنّ الدّاخل في الإسلام يعذر بالجهل بالتّحريم، ويكون ذلك شبهة تمنع ثبوت الحدود كما تقدّم في السّبب الخامس‏.‏ ومنه سقوط العبادات وسائر حقوق اللّه تعالى السّابقة على الإسلام، فلا يطالب بقضائها‏:‏ حتّى على قول من يرى أنّ الكفّار مخاطبون بفروع الشّريعة، ترغيبا لهم في الإسلام، ولئلّا تكون مشقّة القضاء حائلا بينهم وبين الإسلام‏.‏

ومنه إعطاء الزّكاة للكافر الّذي يرجى إسلامه ترغيبا له في الإسلام لتميل إليه نفسه، وإعطاء من أسلم حديثا إذا كان في إعطائه قوّة للإسلام، أو ترغيب لنظرائه ليسلموا‏.‏ ومنه توريث الكافر من قريبه المسلم إن أسلم الكافر قبل قسمة التّركة، على قول عند الحنابلة انفردوا به، ترغيبا له في الدّخول في الإسلام‏.‏

المشاقّ الموجبة للتّيسير

42 - المشاقّ على قسمين‏:‏ مشاقّ لا ينفكّ عنها التّكليف غالبا كمشقّة البرد في الوضوء والغسل، ومشقّة الصّوم في شدّة الحرّ وطول النّهار، ومشقّة السّفر الّتي لا انفكاك للحجّ والجهاد عنها غالبا، ومشقّة ألم الحدود كرجم الزّناة، وقتل الجناة، وقتال البغاة، فلا أثر لهذا النّوع من المشقّات في إسقاط حقّ اللّه الواجب، في كلّ الأوقات، أي‏:‏ لأنّ اللّه تعالى فرضه على ما فيه من المشقّة لمصالح يعلمها، فيكون إسقاطها دائما لما فيها من المشقّات الملازمة إلغاء لما اعتبره الشّارع‏.‏

والقسم الثّاني‏:‏ مشاقّ ينفكّ عنها التّكليف غالباً، فما لا يطاق منها اقتضى التّخفيف بالإسقاط أو غيره اتّفاقا كما تقدّم، وإلا فإن كانت عظيمة فادحة كالخوف على النّفس، أو الأعضاء، فهي موجبة للتّخفيف، لأنّ حفظ النّفوس، والأطراف لإقامة مصالح الدّين أولى من تعريضها للفوات في عبادة أو عبادات يفوت بها أمثالها، وإن كانت المشقّة خفيفة كأدنى وجع في أصبع، أو سوء مزاج خفيف، فهذا لا أثر له، ولا يترخّص به، لأنّ تحصيل مصالح العبادات أولى من دفع مثل هذه المفسدة الّتي لا أثر لها، والمشقّة المتوسّطة بين هاتين الدّرجتين ما دنا منها من الرّتبة العليا أوجب التّخفيف، أو من الدّنيا لم يوجبه، كحمّى خفيفة، وما تردّد بينهما فهو ممّا يختلف فيه غالبا‏.‏ ولا ضبط لهذه المراتب إلّا بالتّقريب‏.‏ قال عزّ الدّين بن عبد السّلام وتختلف المشاقّ باختلاف العبادات في اهتمام الشّرع‏.‏ فما اشتدّ اهتمامه به شرط في تخفيفه المشاقّ الشّديدة أو العامّة، وما لم يهتمّ به خفّفه بالمشاقّ الخفيفة، وقد تخفّف مشاقّه مع شرفه وعلوّ مرتبته لتكرّر مشاقّه كي لا يؤدّي إلى المشاقّ العامّة الكثيرة الوقوع‏.‏

ومن هنا جاءت القاعدة الفقهيّة المشهورة ‏(‏المشقّة تجلب التّيسير‏)‏ وهي من أمّهات قواعد الفقه الإسلاميّ، يحتاج إليها المجتهد والمفتي كثيراً‏.‏

وقد قال السّيوطيّ‏:‏ يرجع إلى هذه القاعدة غالب أبواب الفقه‏.‏

ومثلها قاعدة ‏(‏إنّ الأمر إذا ضاق اتّسع‏)‏ والمراد بالاتّساع التّرخّص عن اتّباع الأقيسة وطرد القواعد في آحاد الصّور، وذلك عند الضّيق وهو الحرج والمشقّة‏.‏

غير أنّ هاتين القاعدتين مقيّدتان بقاعدة أخرى هي أنّ ‏(‏الميسور لا يسقط بالمعسور‏)‏ ودليلها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»‏.‏

قال الجوينيّ‏:‏ «هذه القاعدة من الأصول الشّائعة الّتي لا تكاد تنسى ما أقيمت أصول الشّريعة «‏.‏ ووجهها أنّ العسر هو سبب التّخفيف، فإن كان البعض ميسورا لم يكن للتّخفيف فيه موضع‏.‏ ومن فروعها‏:‏ إذا كان مقطوع بعض الأطراف غسل الباقي جزما‏.‏ والقادر على ستر بعض عورته دون بعض ستر القدر الممكن‏.‏ والقادر على بعض الفاتحة دون بعض يأتي بما قدر عليه‏.‏ ومن وجد ماء لا يكفي لكلّ طهارته استعمله‏.‏ ومن وجد بعض صاع في الفطرة أخرجه‏.‏ وهي قاعدة غالبيّة، فإنّه يخرج عنها فروع منها‏:‏ واجد بعض الرّقبة في الكفّارة لا يعتقها، بل ينتقل إلى البدل‏.‏ ومنها‏:‏ القادر على صوم بعض يوم دون كلّه لا يلزمه إمساكه، وإذا وجد الشّفيع بعض الثّمن لا يأخذ قسطه من الشّقص‏.‏

تعارض قاعدة رفع الحرج والنّصّ

43 - ذكر هذه القاعدة ابن نجيم في أشباهه‏.‏ ونقل عن السّرخسيّ قوله‏:‏ «إنّما تعتبر البلوى في موضع لا نصّ فيه بخلافه، فأمّا مع وجود النّصّ فلا يعتدّ به «‏.‏ ثمّ قال ابن نجيم‏:‏ ولذا قال أبو حنيفة ومحمّد رحمهما الله بحرمة رعي حشيش الحرم وقطعه إلا الإذخر‏.‏ ومن فروعها أيضاً قول ابن نجيم‏:‏ قال أبو حنيفة‏:‏ بتغليظ نجاسة الأرواث لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الرّوثة‏:‏ «إنّها ركس» أي نجس، ولا اعتبار عنده بالبلوى في موضع النّصّ‏.‏ وليست هذه القاعدة متّفقا عليها، ولذا خالف في الفرع الأوّل أبو يوسف، فأجاز رعي حشيش الحرم، للحرج في الامتناع منه‏.‏ وهو مذهب عطاء والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ يجوز رعيه، لأنّ الهدي كانت تدخل الحرم فتكثر فيه، فلم ينقل أنّه كانت تسدّ أفواهها، ولأنّ بهم حاجة إلى ذلك، أشبه قطع الإذخر‏.‏

أنواع التّخفيف والتّيسير

44 - أورد الشّيخ عزّ الدّين بن عبد السّلام من أنواع التّخفيفات الواردة في الشّريعة ستّة أنواع‏:‏ ثمّ زاد عليها غيره‏:‏ فالسّتّة هي‏:‏

النّوع الأوّل‏:‏ تخفيف الإسقاط، فيسقط الفعل عن المكلّف، كإسقاط الجمعة عن أصحاب الأعذار، والحجّ عن غير المستطيع، والجهاد عن الأعمى والأعرج ومقطوع اليد، وكإسقاط الصّلاة عن الحائض والنّفساء‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ تخفيف تنقيص، كقصر الصّلاة للمسافر والاكتفاء بركعتين لدفع مشقّة السّفر، وتنقيص ما عجز عنه المريض من أفعال الصّلوات عن الحدّ الأدنى المجزئ لغير المريض، كتنقيص الرّكوع والسّجود إلى الحدّ المقدور عليه‏.‏

النّوع الثّالث‏:‏ تخفيف إبدال، كإجازة الشّارع للمريض إبدال الغسل والوضوء بالتّيمّم، وإبدال القيام في الصّلاة بالقعود، أو الاضطجاع، وإبدال الصّيام للشّيخ الفاني بالإطعام، وإبدال بعض واجبات الحجّ أو العمرة بالكفّارات عند قيام الأعذار‏.‏

النّوع الرّابع‏:‏ تخفيف تقديم، كإجازة جمع التّقديم في الصّلاة للمسافر والحاجّ، وإجازة تعجيل تقديم الزّكاة عن الحول لداع، وتقديم زكاة الفطر في رمضان قبل يوم العيد بيوم أو بيومين، وأجاز البعض تقديمها لأكثر من ذلك‏.‏

النّوع الخامس‏:‏ تخفيف تأخير، كإجازة الجمع تأخيرا لوجود عذر يجعل أداءه في وقته شاقّا على المكلّف، وتأخير صيام رمضان للمريض والمسافر، فقد خفّف عنهما بالفطر، مع قيام السّبب الموجب للصّوم، المحرّم للفطر، وتأخير الصّلاة في حقّ النّائم والنّاسي‏.‏ النّوع السّادس‏:‏ تخفيف ترخيص، وهو ما استبيح من المحظورات عند الضّرورة، أو عند الحاجة، كإباحة التّلفّظ بكلمة الكفر لمن أكره بإجراء قول الكفر على لسانه، وأكل الميتة للمضطرّ لخوف الهلاك على نفسه من الجوع، وشرب الخمر لإزالة الغصّة‏.‏ وإجازة الصّلاة للمستجمر مع بقيّة النّجو‏.‏ قال السّيوطيّ‏:‏ وأضاف العلائيّ سابعا، وهو تخفيف التّغيير، كتغيير نظم الصّلاة في الخوف‏.‏

45 - ولمّا كان التّخفيف واردا في العبادات بأنواعها، والمعاملات، والحدود، وغيرها ممّا اشتملت عليه أبواب الفقه، فمن الصّعب جمع هذه الأمور المخفّفة كلّها من أبوابها المختلفة‏.‏ فنورد أمثلة منها‏.‏

التّخفيف في النّجاسات

46 - أوجب الشّارع الحكيم على المسلم الطّهارة من النّجاسات في الثّوب، والبدن، والبقعة، عند القيام إلى الصّلاة، وأن يكون طعامه وشرابه طاهراً‏.‏ وهذا هو الأصل، ولكن بعض صور النّجاسات استثنيت من هذا الأصل لعموم البلوى بها، وصعوبة التّحرّز منها، والتّخفيف وارد على ما يصيب الإنسان منها، بحيث لو أوجب عليه غسلها، لوقع النّاس في حرج وضيق‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلحي ‏(‏نجاسة وطهارة‏)‏‏.‏

التّخفيف في ستر العورة

47 - ستر العورة عن النّظر بما لا يصف البشرة واجب‏.‏

واختلف الفقهاء في كونه شرطا لصحّة الصّلاة‏:‏ فقال أبو حنيفة والشّافعيّ بشرطيّته‏.‏

وقال بعض المالكيّة‏:‏ إنّ سترها ليس بشرط لصحّة الصّلاة، وقيل‏:‏ إنّها شرط مع الذّكر دون السّهو‏.‏ وقال التّميميّ من الحنابلة‏:‏ إن بدت عورته وقتا، واستترت وقتا، فلا إعادة عليه‏.‏ والعريان الّذي لا يجد ما يستر عورته، خفّف عنه، فإذا وجد جلدا طاهرا، أو ورقا يمكنه خصفه عليه، أو حشيشا يمكنه أن يربطه فيستتر به، جاز له ذلك، وصحّت الصّلاة بما ذكر، فإذا وجد ثوبا نجسا جاز له الصّلاة فيه، ولا يصلّي عريانا، على خلاف في ذلك‏.‏ فإذا لم يجد إلّا ما يستر بعض العورة، ستر السّوأتين، لأنّهما أفحش، وسترهما آكد‏.‏ فإن كان لا يكفي إلّا أحدهما ستر أيّهما شاء - على خلاف في أيّهما أولى بالسّتر‏.‏ والعري عذر في ترك الجماعة، غير مانع لصحّة الصّلاة، والانفراد حال العري أفضل من الجماعة‏.‏ وإن انكشف من المرأة أقلّ من ربع شعرها أو ربع فخذها، أو ربع بطنها، لم تبطل صلاتها، تخفيفا عند بعض الفقهاء‏.‏ وانظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏عورة‏)‏‏.‏

التّيسير في المعاملات

48 - للمعاملات نصيب من التّخفيف كما للعبادات والحدود‏.‏

فقد خفّفت الشّريعة ويسّرت المعاملات،فشرعت‏:‏ خيار المجلس دفعا للضّرر بين المتبايعين‏.‏ وشرعت خيار الشّرط للمشتري دفعا للنّدم‏.‏ وشرعت الرّدّ بالعيب دفعاً لما يلحق المشتري من الضّرر، إذا بان بالشّيء المشترى عيب، ولم يرض عنه المشتري‏.‏

وكذا خفّفت الشّريعة في العقود الجائزة، فلم تلزم بها أحد طرفي العقد، إذ أنّ لزومها شاقّ، فتكون سببا لعدم تعاطيها‏.‏

التّيسير في إقامة الحدود

49 - يندب تلقين من أقرّ بموجب الحدّ الرّجوع عنه، إمّا بالتّعريض، وإمّا بأوضح منه، ليدرأ عنه الحدّ، وذلك مثل ما «فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع ماعز حيث قال له‏:‏ لعلّك قبّلت، أو غمزت، أو نظرت»‏.‏ وقد جعل اللّه سبحانه وتعالى التّوبة والتّكفير عن الذّنوب رفعا للضّيق والحرج، وماحيا للشّعور بالذّنب والخطيئة‏.‏

ومن درء الحدود بالشّبهة أنّ من زفّت إليه غير زوجته فوطئها ظنّا أنّها زوجته، فلا حدّ عليه، ولا يكون آثما، لثبوت عذره، وإنّما عليه ما يتعلّق بحقوق العباد، وهو هنا مهر المثل‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏حدود‏)‏‏.‏

تخفيف الدّية

50 - الجاني المخطئ خفّف عنه الشّارع بإيجاب الدّية بدل القصاص، ثمّ جعلها على العاقلة، وعاقلة الجاني ذكرا كان أو أنثى‏:‏ ذكور عصبته نسبا، كالآباء، والأبناء، والإخوة لغير أمّ وبنوهم، والأعمام، والمعتق‏.‏ وذلك لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها من كانوا، ولا يرثون منها إلا ما فضل عن ورثها»‏.‏ وكما خفّف عن الجاني بتحميل الدّية العاقلة، خفّف عن العاقلة، فجعل الشّارع دية شبه العمد مؤجّلة في ثلاث سنين - تخفيفا عليهم - في آخر كلّ سنة ثلثها، إن كان الواجب دية كاملة، كدية النّفس، على ما ورد في قول عمر وعليّ رضي الله عنهما ولا مخالف لهما‏.‏ وخفّف أيضا عن العاقلة‏:‏ فمن مات منها قبل الحول أو افتقر أو جنّ لم يلزمه شيء‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏دية‏)‏‏.‏

النّوع الثّالث‏:‏ تيسير المكلّف على نفسه وعلى غيره

أوّلاً‏:‏ تيسير المكلّف على نفسه في العبادات

51 - أرشد النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أن يأخذ الإنسان نفسه في النّوافل وما فيه تخيير من الفرائض، كالصّيام في السّفر، بالميسور، فقال‏:‏ «عليكم ما تطيقون من الأعمال فإنّ اللّه لا يملّ حتّى تملّوا» وقال‏:‏ «إنّ هذا الدّين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغّضوا إلى أنفسكم عبادة اللّه، فإنّ المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»

وقال‏:‏ «سدّدوا وقاربوا وأبشروا فإنّه لا يدخل أحدا الجنّة عمله قالوا‏:‏ ولا أنت يا رسول اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ ولا أنا، إلا أن يتغمّدني اللّه برحمته»‏.‏ ونهى عن الوصال في الصّوم لما فيه من المشقّة‏.‏ وقال‏:‏ «لا تشدّدوا فيشدّد اللّه عليكم، فإنّ قوماً شدّدوا فشدّد اللّه عليهم فتلك بقاياهم في الصّوامع ‏{‏رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْنَاها عَلَيهِمْ‏}‏»‏.‏

وليس معنى اليسر في هذا الباب ترك العمل والتّكاسل عنه، فإنّ اللّه تعالى مدح عباده المتّقين بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلكَ مُحْسِنين كَانُوا قَليلاً مِن اللَّيلِ مَا يَهْجَعُونَ‏.‏ وبالأسْحَارِ هم يَسْتَغْفِرُون‏}‏ ولكن المعنى أن لا يحمل نفسه ما يشقّ عليها، بل يتعبّد ما شاء ما دام نشيطا لذلك، فإن نشأت مشقّة خارجة عن المعتاد أراح نفسه، ففي الحديث «إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، وحبل مربوط بين ساريتين، فقال‏:‏ ما هذا ‏؟‏ قالوا‏:‏ حبل لزينب، تصلّي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد»‏.‏

وفي حديث آخر «أنّه صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلّل عليه‏.‏ فسأل عنه فقالوا‏:‏ صائم‏.‏ فقال‏:‏ ليس من البرّ الصّوم في السّفر»

فسّر بأنّ المراد من بلغ منه الجهد إلى مثل هذه الحال ولم يفطر‏.‏

وأرشد صلى الله عليه وسلم إلى أنّ تحصيل أجر النّوافل بفعل القليل منها مع المحافظة على ما يفعله العبد منها والدّوام عليه أفضل من التّشديد على النّفس حينا والتّراخي حينا آخر، فقال‏:‏ «أحبّ الأعمال إلى اللّه أدومها وإن قلّ»‏.‏

ثانياً‏:‏ تيسير الإنسان على نفسه في شؤون الدّنيا

52 - ليس للإنسان أن يضيّق على نفسه في شؤون حياته، ولا ينبغي أن يظنّ أنّ التّضييق عليها من الزّهد، أو أنّه يقرّبه إلى اللّه، بل إذا أخذ المال من حلّه وأنفق على نفسه في الحلال، في مأكل أو مشرب أو مسكن فإنّه يؤجر على ذلك إذا كان بقدر الحاجة، كما يؤجر إن زاد عليه بقصد التّقوّي على طاعة اللّه ما لم يخرج إلى حدّ السّرف والتّرف‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتي أَخْرَجَ لِعِباَدِه وَالطَّيِّبَاتِ مِن الرِّزقِ قُلْ هي لِلَّذينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنيا خَالِصَةً يومَ القيامةِ‏}‏، وفي الحديث‏:‏ «ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا»‏.‏ وكذلك في غير المال، وقد «قال سلمان الفارسيّ لأبي الدّرداء رضي الله عنهما‏:‏ إنّ لربّك عليك حقّا، ولأهلك عليك حقّا، ولنفسك عليك حقّا، فأعط كلّ ذي حقّ حقّه فأخبر أبو الدّرداء بذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ صدق سلمان»

وفي الحديث أيضاً «من فقه الرّجل رفقه في معيشته»‏.‏

مشقّة الورع واجتناب الشّبهات

53 - من النّاس من يشقّ على نفسه تورّعا واتّقاء للشّبهات والتزاما لجانب التّقوى، قال الشّاطبيّ‏:‏ «ولا كلام في أنّ الورع شديد في نفسه، كما أنّه لا إشكال في أنّ التزام جانب التّقوى شديد «وفي الحديث‏:‏ «إنّ الحلال بيّن وإنّ الحرام بيّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من النّاس، فمن اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام» وقوله‏:‏ «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»‏.‏

فالورع بترك الشّبهات مطلوب شرعا، لكن ما دام خارج دائرة العسر والحرج، فإن كان في التّورّع حرج على المكلّف ومشقّة غير معتادة سقط، كما يسقط الحرام للضّرورة‏.‏

غير أنّه ممّا ينبغي بيانه أنّ ما يكون فيه حرج ومشقّة غير معتادة بالنّسبة لغالب النّاس قد يكون معتادا عند بعضهم، ومن هنا تميّز أهل شدّة الورع من هذه الأمّة، لأنّهم ما كان يشقّ عليهم ترك الشّبهات‏.‏

ثالثاً‏:‏ تيسير المكلّف على غيره

54 - المؤمن مطالب شرعا بالتّيسير على إخوانه المؤمنين ممّن بينه وبينهم علاقة ومعاملة، حيث يمكنه التّيسير، ولا يخالف حكماً شرعيّاً‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا به شَيئاً وَبالوالِدَين إحْسَانَاً وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِين وَالجَارِ ذي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحب بِالجَنْبِ وَابنِ السَّبيلِ وَمَا مَلَكتْ أيمَانُكُمْ‏}‏ ومن الإحسان المأمور به التّيسير فيما يمكن التّيسير فيه‏.‏ وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا نفّس اللّه عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستر اللّه عليه في الدّنيا والآخرة، ومن يسّر على معسر يسّر اللّه عليه في الدّنيا والآخرة، واللّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»‏.‏

وقد ندب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الرّفق في تناول الأمور ومعاملة المسلمين فقال‏:‏

«إذا أراد اللّه بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرّفق» وقال‏:‏ «إنّ الرّفق لا يكون في شيء إلّا زانه، ولا ينزع من شيء إلّا شانه» وقال ‏:‏ «من يحرم الرّفق يحرم الخير كلّه»‏.‏ ويظهر هذا الأصل في أبواب من الفقه منها ما يلي‏:‏

تخفيف الإمام في الصّلاة

55 - أورد الشّارع الحكيم التّخفيف في بعض أركان الصّلاة، مراعاة لأحوال النّاس، وتيسيرا لهم، فقد أمر صلى الله عليه وسلم الأئمّة بالتّخفيف في الصّلاة وعدم تطويل قراءتها، وهو أمر استحباب، وذلك لاختلاف أحوال المأمومين، لأنّ فيهم الضّعيف، والمريض، والعاجز‏.‏ فلا يطوّل الإمام الصّلاة لئلا يشقّ على من خلفه، وذلك لحديث‏:‏

«إذا صلّى أحدكم بالنّاس فليخفّف، فإنّ فيهم الضّعيف، والسّقيم، والكبير، وإذا صلّى أحدكم لنفسه، فليطوّل ما شاء»‏.‏ وروى ابن مسعود رضي الله عنه «أنّ رجلاً قال‏:‏ واللّه يا رسول اللّه إنّي لأتأخّر عن صلاة الغداة من أجل فلان، ممّا يطيل بنا، فما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في موعظة أشدّ غضباً منه يومئذ، ثمّ قال‏:‏ إنّ منكم منفّرين، فأيّكم ما صلّى بالنّاس فليتجوّز، فإنّ فيهم الضّعيف، والكبير، وذا الحاجة»‏.‏ وسببه أنّ «أبيّ بن كعب، كان يصلّي بأهل قباء، فاستفتح سورة طويلة، فدخل معه غلام من الأنصار في الصّلاة، فلمّا سمعه استفتحها، انفلت من صلاته، فغضب أبيّ، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يشكو الغلام، وأتى الغلام يشكو أبيّا فغضب النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى عرف الغضب في وجهه، ثمّ قال‏:‏ إنّ منكم منفّرين فأيّكم ما صلّى بالنّاس فليتجوّز فإنّ فيهم الضّعيف، والكبير، وذا الحاجة» ونحوه حديث معاذ المعروف‏.‏

والمراد بالتّخفيف أن يقتصر على أدنى الكمال، فيأتي بالواجبات، والسّنن، ولا يقتصر على الأقلّ ولا يستوفي الأكمل‏.‏ وإن كان المأمومون محصورين ورضوا بتطويله الصّلاة جاز، وعليه يحمل «تطويل النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض ما أثر عنه»‏.‏

ويشرع له أيضا التّخفيف لنازلة تستدعي ذلك، لما في الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّي لأقوم في الصّلاة أريد أن أطوّل فيها، فأسمع بكاء الصّبيّ، فأتجوّز في صلاتي كراهية أن أشقّ على أمّه»‏.‏ والتّخفيف للأئمّة أمر مجمع عليه، مندوب عند العلماء‏.‏ وفيه تفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏إمامة‏)‏‏.‏

وكذلك ينبغي للإمام أن يراعي عدم التّطويل في خطبة الجمعة لما في الحديث «إنّ طول صلاة الرّجل وقصر خطبته مئنّة من فقهه فأطيلوا الصّلاة وأقصروا الخطبة»‏.‏

تيسير الإمام، والولاة، والعمّال، على الرّعيّة، والرّفق بهم

56 - ينبغي لمن ولي أمر غيره من النّاس بحيث ينفذ عليهم أمره ويلزمهم طاعته أن لا يشقّ عليهم فيما يكلّفهم مشقّة تغلبهم، وذلك ليمكنهم طاعته ومواصلة الامتثال له، ولئلا يخرجوا عن ذلك إلى المعصية فيضطرّ هو إلى استخدام العقوبة‏.‏ وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم «اللّهمّ من ولي من أمر أمّتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به»‏.‏

وإذا كان في من تحت يده الضّعيف والصّغير والمرأة خصّهم بمزيد من الرّفق، وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم في مسير له، فحدا الحادي، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا أنجشة ويحك بالقوارير» يعني النّساء‏.‏

وعلى أمير الجيش أن يرفق بمن معه في المسير‏.‏ وقد ذكر الماورديّ أنّ الواجب على الأمير في المسير سبعة حقوق‏:‏ أوّلها‏:‏ الرّفق بهم في المسير الّذي يقدر عليه أضعفهم، وتحفظ به قوّة أقواهم، ولا يجدّ السّير فيهلك الضّعيف، ويستفرغ جلد القويّ‏.‏ وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «المضعف أمير الرّكب» يريد أنّ من ضعفت دابّته كان على القوم أن يسيروا بسيره‏.‏ وذكر مثل ذلك في أمير الحجّ‏.‏

تيسير المعلّمين، والدّعاة على المدعوّين، والرّفق بهم

57 - يستحبّ لمن يتولّى التّعليم أو الدّعوة أن يرفق بمن معه، ويأخذهم باللّين لا بالعنف‏.‏ ولا يأتي بما ينفّرهم عن الحقّ، بل ينتقل بهم ممّا يعرفون إلى ما لا يعرفون، بلطف ويسر، ولا يشقّ عليهم‏.‏ قال النّوويّ‏:‏ «ينبغي أن يكون باذلا وسعه في تفهيمهم، وتقريب الفائدة إلى أذهانهم، حريصاً على هدايتهم، ويفهم كلّ واحد بحسب فهمه وحفظه، فلا يعطيه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عمّا يحتمله بلا مشقّة، ويخاطب كلّ واحد على قدر درجته، وبحسب فهمه وهمّته «‏.‏ ويستأنس لذلك بقول موسى للخضر‏:‏

‏{‏هَل أَتَّبعُكَ على أنْ تَعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدَاً‏}‏ ثمّ قال‏:‏ ‏{‏لا تُؤاخِذْنِي بمَا نَسِيتُ ولا تُرْهِقْني مِنْ أمْرِي عُسْرَاً‏}‏ وقد «أرسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعريّ، ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وكان فيما أوصاهما به أن قال‏:‏ بشّرا ويسّرا وعلّما ولا تنفّرا»

وقال أنس‏:‏ قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يسّروا ولا تعسّروا وسكّنوا ولا تنفّروا»‏.‏

التّيسير في الفتيا

58 - على المفتي أن يراعي أحوال السّائلين، فمن غلب عليه التّحرّج والتّشدّد، وأن يحمّل نفسه ما يرهقها، يفتي بما فيه التّرجية، والتّرغيب، والتّرخيص، ويخبر بما فيه سعة، وأنّه يجزئه القليل من العمل إن كان خالصاً صواباً‏.‏

ومن غلب عليه التّهاون، والتّساهل، والانحلال من الدّين يفتي بما فيه التّرهيب، والتّخويف، والزّجر، فعل الطّبيب بمن انحرفت به العلّة عن حال الاستواء‏.‏

وكلّ ذلك من غير أن يبدّل المفتي حكما شرعيّا من تلقاء نفسه، بل تكون فتياه طبقا لمقتضى الأدلّة الشّرعيّة وأصول الفتيا، كما هو مبيّن في علم أصول الفقه‏.‏

وقال النّوويّ‏:‏ «إن رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامّيّ بما فيه تغليظ، وهو ممّا لا يعتقد ظاهره، وله فيه تأويل، جاز ذلك، زجراً للعامّة، ولمن قلّ دينه ومروءته‏.‏

- فإن لم تكن الفتيا بمقتضى الدّليل، بل أفتاه بما فيه الرّخصة عن غير ثقة، فيكون التّرخيص تشهّيا وجريا مع الهوى، وهو ممنوع وليس اختلاف العلماء دليلا على جواز الأمر على الوجوه المختلف فيها‏.‏

قال الشّاطبيّ‏:‏ الفقيه لا يحلّ له أن يتخيّر بعض الأقوال بمجرّد التّشهّي والأغراض من غير اجتهاد، ولا أن يفتي به أحداً‏.‏ والمقلّد في اختلاف الأقوال عليه مثل ما على المفتي‏.‏

- هذا ومن ناحية أخرى ليس للمفتي أن يفتي بما فيه حرج وشدّة على المستفتي ما دام يجد له مخرجا شرعيّاً صحيحاً‏.‏ قال الجصّاص في أحكامه عند قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيجعَلَ عليكم مِنْ حَرَجٍ‏}‏ قال‏:‏ لمّا كان الحرج الضّيق، ونفى اللّه عن نفسه إرادة الحرج بنا، ساغ الاستدلال بظاهره في نفي الضّيق وإثبات التّوسعة في كلّ ما اختلف فيه من أحكام السّمعيّات، فيكون القائل بما يوجب الحرج والضّيق محجوجا بظاهر الآية، وقال سفيان الثّوريّ‏:‏ «إنّما العلم عند الرّخصة عن ثقة فأمّا التّشديد فيحسنه كلّ أحد «‏.‏

- أمّا من كان من المستفتين جاريا على التّوسّط، فإنّ فتياه تكون على التّوسّط من غير إفراط ولا تسهيل‏.‏ والتّوسّط هو الأصل في الشّريعة كما تقدّم‏.‏

التّيسير في الحقوق الماليّة

المهر والنّفقة‏:‏

59 - أرشد اللّه تعالى إلى تسهيل أمر التّزويج ولو كان الخاطب فقيراً، إن كان صالحاً، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُم وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإمَائِكُمْ إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنهم اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم «إنّ من يمن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها» وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «إنّ من أعظم النّساء بركة أيسرهنّ مؤنة» وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ «لا تغالوا في صداق النّساء، فإنّها لو كانت مكرمة في الدّنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فتقليل الصّداق سنّة‏.‏

وكذا أرشد اللّه تعالى إلى العشرة بين الزّوجين بالمعروف، وأداء كلّ منهما ما عليه من الحقّ للآخر، مع ترك الشّحّ بحقّه هو، لتتيسّر الحياة بينهما، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإن امْرَأةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزَاً أو إعْرَاضَاً فلا جُنَاحَ عليهما أنْ يُصْلِحَا بينهما صُلْحَاً، وَالصُّلْحُ خَيرٌ وَأُحْضِرَت الأنْفُسُ الشُّحّ وإنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بما تَعْمَلونَ خَبِيرَاً‏}‏‏.‏

هذا في حال قيام الزّوجيّة، وكذا بعد انفصامها، لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَإنْ طَلَّقْتُموهُنَّ مِنْ قَبل أنْ تَمَسُّوهنَّ وقد فَرَضتُم لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضتُم إلا أنْ يَعْفُونَ أو يَعفُو الَّذي بِيدِه عُقْدَةُ النِّكَاحِ وأنْ تَعْفُوا أقْربُ للتَّقوَى ولا تَنْسَوا الفَضْلَ بينكمْ إنَّ اللَّهَ بمَا تَعملونَ بَصير‏}‏‏.‏

التّيسير في مطالبة المدين‏:‏

60 - أذنت الشّريعة لصاحب الحقّ في المطالبة بحقّه الّذي عند صاحبه، وجعلت له التّشدّد في المطالبة إن كان المدين مماطلا، بأن كان واجدا ممتنعا من الأداء، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته»‏.‏

أمّا إن كان من عنده الحقّ في ضيق من الأداء في الحال، بأن كان ماله غائبا، أو كان محتاجا إلى تناول الطّعام، أو الشّراب، أو نحوهما، ويؤخّره ذلك عن أداء المال‏.‏

فقد ندب الشّرع الدّائن إلى التّيسير عليه، أمّا إن تبيّن أنّه معسر لا يجد ما يؤدّي، فإنّ الإنظار واجب لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَإنْ كَانَ ذو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيسَرَةٍ‏}‏ وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تلقّت الملائكة روح رجل ممّن كان قبلكم، فقالوا‏:‏ أعملت من الخير شيئا ‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالوا‏:‏ تذكّر قال‏:‏ كنت أداين النّاس فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجاوزوا عن الموسر‏.‏ قال‏:‏ قال اللّه عزّ وجلّ‏:‏ تجوّزوا عنه»‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «رحم اللّه رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى» حتّى لو كان الدّين إنّما نشأ عن ظلم وعدوان، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عليكم القِصَاصُ في القَتْلَى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ عُفِيَ له مِنْ أَخِيه شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأدَاءٌ إليه بِإحْسَانٍ‏}‏‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ‏}‏ أمر بأن تكون المطالبة على الوجه الّذي بيّن‏.‏ ويراجع التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏إعسار‏)‏‏.‏

مياسرة الشّريك والصّاحب

61 - أمر اللّه تعالى بالإحسان إلى الصّاحب بالجنب، وهو كلّ من جمعك به السّفر، أو العمل، أو نحوهما‏.‏ ومن الإحسان إليه عدم المشقّة عليه، ومعاونته إن احتاج إلى ذلك‏.‏ قال ربيعة بن أبي عبد الرّحمن‏:‏ المروءة في السّفر بذل الزّاد، وقلّة الخلاف، وكثرة المزاح في غير مساخط اللّه‏.‏

وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في شأن الجهاد «فأمّا من ابتغى وجه اللّه، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشّريك، واجتنب الفساد، فإنّ نومه ونبهه أجر كلّه»‏.‏ وياسر الشّريك‏:‏ من المياسرة بمعنى المساهلة، أي ساهل الرّفيق وعامله باليسر‏.‏

التّيسير على الأجراء

62 - ينبغي التّخفيف عن العمّال في أوقات الأكل، والشّرب، والصّلاة، وقضاء الحاجات، لأنّها مستثنى شرعا عن وقت العمل، لمسيس الحاجة إليها، وكذا من استؤجر سنة، أو شهرا، أو جمعة، خرجت هذه الأوقات عن الاستحقاق، فإنّ ذلك لو منع لأدّى إلى ضرر عظيم، فلذا خفّف عن الأجراء‏.‏ ولا يجوز لربّ العمل تكليف الأجير عملا لا يطيقه، وهو ما يحصل له به ضرر لا يحتمل عادة‏.‏ ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الرّقيق‏:‏ «لا تكلّفوهم ما يغلبهم فإن كلّفتموهم فأعينوهم»‏.‏